لا يختصر الربيع بزهرة واحدة


الإجرام الدموي الذي أظهرته الأنظمة التي ثارت عليها شعوبها بشكل متأخر نسبياً ضمن التسلسل الزمني المتسارع للثورات العربية، يعطي انعكاساً على اقبال تلك الحكومات على دراسة الأوضاع الثورية في البلاد التي سبقتها بشكل تفصيلي خرجت منها بنتيجة الأخذ من العنف الارهابي سلوكاً لردع ثوارها واعادة صناعة الخوف في نفوس شعوبها، ساعدها على ذلك تبعية القوات المسلحة لرغبة الطبقة الحاكمة المتحكمة بالهرمية العسكرية والتي سخرت هذه الظروف لخدمة مصالحها. فالأنظمة العربية الحاكمة تتشارك جميعها فيما بينها باعتمادها على تسخير القوى الأمنية لخدمة مصالحها والتضييق عن طريق تلك القبضة الحديدية على حريات شعوبها ونشر اساطير الرعب في صدور مواطنيها، النقطة التي استطاعت زمنياً تمديد عمرها كأنظمة ديكتاتورية مستفردة بالحكم بطرق غير شرعية وذلك بخلق مناخ قمعي لضمان وأد الثورة قبل اندلاعها أو تشكيل الظروف المهيئة لقدح شراراتها، معتمدة على تفتيت الحياة السياسية والنقابية والسيطرة على كل مظاهر الحياة الاجتماعية بما فيها التجمعات الرياضية!. هذه الانظمة المتآكلة داخلياً بفعل الفساد الذي وجد فيها بنية مثالية للانتشار، لم تكن لتستطيع الوقوف طويلاً بوجه ارادة شعبها لو لم تقحم القوة العسكرية لتحمي بها كيانها ضد المد الشعبي الثائر عليها. اعتمادها على التضييق الامني لم يكن كافياً للسيطرة على الدائرة الثائرة من بعد تشكلها، فكان المشهد المختلف من ناحية الدموية وزمن الصمود القمعي في البلاد العربية يعتمد على انصياع الجيش لرغبة الحكام من عدمه. وعليه تكون النقطة المرجعية الأساسية التي يجب الارتكاز عليها مستقبلا كفعل جني لأولى ثمار الربيع العربي، تحويل تبعية القوى العسكرية لرجال السياسة إلى نموذج ذو هيكلية مستقلة، محترم قرارياً، لا يحق للمنتمي إلى هرميته شغل أي دور مهما كان بسيطاً في الحياة السياسية. وهو أمر يمكن الوصول إليه مباشرة بالاعتماد على مواد قانونية تنظّم اصول العلاقة بين الانظمة الحاكمة والمؤسسة العسكرية ومراقبة طبيعة هذه العلاقة لعدم العودة لحالة التبعية المطلقة.
لكن المشكلة التي تحتاج كل البلاد العربية الوقوف مطولاً أمامها -سواء كانت قائمة على انظمة تسيطر على المؤسسة العسكرية أو لم تكن- تتلخص بمدى قدرة أنظمة المستقبل على ايجاد المستوى المناسب لوضع “نقطتها المرجعية” بحيث لا تضمن فيها عدم تكرار المشهد القمعي الديكتاتوري الحالي المستفرد بالسلطة فحسب، بل تضمن ايجاد هوية وطنية حقيقية مفصول فيها الامور المسلّم بها بشكل غير قابل للجدال أو النقاش عن الامور التي من الواجب الجدال بها والسماح لبيئة متعددة الآراء للخروج ضمنها والتعبير عن ذاتها.

نجاح التغيير من عدمه في البلاد العربية مرتبط بشكل مباشر بقدرة الشعوب الثائرة على طغاتها على ركن “نقطتها المرجعية” التي سترتكز عليها مستقبلا لترفض النزول دونها، كلما وضعت مرجعيتها في القيم والقوانين والسلوكيات أبعد عن واقعها الحالي وبالاتجاه الصحيح، كلما استطاعت الشعوب العربية الابتعاد عن شبح السقوط بواقع مماثل أو ما يعرف عامية بتبديل الطرابيش في مشهد ألفته وعاصرته شعوب المنطقة في القرن الماضي يوم حصلت معظم البلاد العربية على استقلال قرارها وكيانها بفعل سُجّل بالتاريخ على أنه ثوري نتج عنه ديكتاتوريات دموية أشد قسوة من القوى الاستعمارية باستثناء كونه مغلفاً بالخطابات والشعارات والقيم النضالية الوطنية.

الديكتاتوريات العربية خلقت على مر زمن حكمها حالة من الخلط اللغوي والفكري والقانوني بين سلوكها القامع كأنظمة مستفردة بالسلطة وهوية الاشخاص القائمين على رأس الهرم مع المواطنة والحقوق والقيم التي تستدعي وجود حالة تكاتف شعبي مؤمن بضرورة تحقيقها، هذا الخلط في المفاهيم والمصطلحات اضافة لتشويه مفهوم الالتزام بالقوانين وقدسيتها، سمح لهذه للأنظمة الحاكمة المحولة بلدانها لمزارع خاصة لها ولعائلتها، ومن دون أن تجد ضرراً في ذلك، أن ترفع شعارات ثورية وأهداف تحررية ونضالية، وهي التي تشكل كأنظمة أكثر النماذج ديكتاتورية في العصر الحديث. ويوم لم تجد أي رادع شعبي أو حقوقي أو قانوني ليقف امامها أو يضع حدا لمد سيطرتها، لم تتوانى عن نقل كل الأفكار والأهداف وتفاصيل الحياة الاجتماعية لخانة المحظور مناقشته ضمن سلوكها السادي. فبات التمييز في توزيع المناصب بطريقة عنصرية تقيّم الفرد بحسب انتماءاته لا بحسب امكانياته، مدرج ضمن افعال ممنهجة غير قابلة للنقد، وكل من ينقدها أو يشخصها طائفي بالضرورة وعنصري بالضرورة وجب اسكاته بكل الطرق الممكنة. كذلك الامر بالنسبة لفساد الحكم بانتقاله وتداوله بوصمه فعل طبيعي غير قابل للنقاش وكل من يحاول الاشهار بنقده أو محاربته مدفوع بأجندات خارجية أو بأحسن الاحوال بغيرة شخصية لعدم حصوله على مكتسبات مماثلة. والكثير من جوانب الحياة التي منع الرأي العام من التفكير في تصايلها أو حتى الاقدام على طرحها على طاولة النقاش.

المشكلة تظهر عند سقوط هذه البنية غير قابلة للنقاش دفعة واحدة، لتنقل معها جميع الامور المحرّمة إلى خانة المستباحة، بعيداً عن أي محظورات أو ضوابط تتحكم بها، ولتطرح تساؤلات عن شرعية التمييز الطائفي مثلا أو امكانية تشتيت البلاد لأقاليم منفصلة تبعاً لرغبة الأغلبية التي تسكن كل أقليم!

اضافة إلى كون النموذج الوحيد الذي عاصره معظم المواطنون اليوم يستلهم بطريقة أو بأخرى المفهوم السادي في الحكم، فالمفهوم المشكّل حول الديمقراطية مثلا، رغم تناقضه الكلي مع الديكتاتورية كمبدأ وتوجه وسلوك، إلا أنه يخضع في البلدان التي لم تعرف غير الديكتاتورية حكما يتسيدها لتصور ديكتاتوري لكن بصيغة شعبية، فيختصر العمل النقابي والمؤسساتي ليقتصر على ورقة في الصندوق وبعدة مرشحين من أحزاب مختلفة، يحق للفائز بأغلبية التصويت اضافة طابعه الشخصي والفردي على البلاد كلها وليصبغها بالشكل الذي يريد تماما كما يفعل الديكتاتور اليوم، الفرق أنه ديكتاتور منتخب بعملية ديمقراطية تظهر فيها مفهوم الأغلبية لا بصيغة قناعات بل أغلبية مبنية على صفات عنصرية بحتة كالدين والقومية والطائفة. أي أن النموذج الذي يتخيله عامة الشعب الراضخ للديكتاتورية والحالم بالديمقراطية يكون مازجاً بين ديكتاتورية الأغلبية وديمقراطية المبنية على واقع النسب الديموغرافية العنصرية، فيها الأفضلية للأكثر تعدادا من الأشخاص، بشكل مشابه جدا لحياة القبائل قبل التمدن والغلبة الأكثرية المبنية على التعداد أو بشكل آخر على الفحولة الجنسية.

الواقع العربي الذي رسخته أنظمة الحكم الحالية، حولت الجموع الشعبية لقطعان يسهل اقتيادها وتوجيهها بعد افقادها القدرة على استشفاف مصالحها، أو القدرة على التخطيط والعمل الجماعي الممنهج لدعم وجودها والصعود عالميا في سلالم التصنيف التي لطالما اعتادت على تذيلها، إلا انها شعوب ناضلت وضحّت في سبيل كرامتها بعد أن حركتها بقايا انسانيتها التي لم تقو أدوات القمع على سحقها، هذه الشعوب قادرة على احداث تغيير ملموس لو وجدت هويتها الوطنية أو خلقت رداء انساني لمواطنيها وفرضت على الأنظمة المقبلة احترامه والالتزام به. يبقى احتمال صعود ديكتاتوريات جديدة على شعارات ثورية وخطب رنانة مفتوح الافق في حال قُيّم ربيع التغيير العربي على أنه ربيع ثورات، مقياس نجاحه مقتصر على نهاية الأنظمة من عدمه.
فالثورات العربية لا يمكن أن تشكل أي لحظة تاريخية مشرّفة تستحق الذكر أو التقديس إن لم تتبع بعمل توعوي وحقوقي واجتماعي جبار يشابه قياسا بجبروته وعظمته وقوف متظاهر عاري الصدر أمام فوهة دبابة. ربيع البلدان العربية لم يكن الثورات بل الرغبة بالتجديد، والتي اصطدمت بأنظمة ترفض هذا التغيير وتحاربه فحولت الرغبات الحالمة بغد أفضل لثورات مشتعلة ضدها. سقوط الأنظمة المتمسكة بالسلطة لا يعني سوى الوصول لمرحلة القدرة على المسير في طريق التغيير بمواجه العواقب والصعوبات الداخلية والخارجية التي يجب الاعتراف بها والاقرار بوجودها، الفرق الوحيد أن الشكل الكلاسيكي للتغير بعيداً عن سيناريو الثورة لا يدور في فلك ازالة السياط أو رفع الحذاء العسكري عن الرقاب، بل في البحث عن تغيير الأسس المنتهجة لتحسين واقعي معيشي اقتصادي وخدمي عن طريق تنظيم حقوقي وقانوني. التغيير الذي يجب على الثوار انفسهم العمل عليه -كونه هو الهدف الاساسي الذي تشكل الثورة مرحلة من مراحله- بنفس الروح المرتفعة والحماس المشتعل في الساحات والذي خلق للعربي المعاصر صورة مشرقة ومشرفة في ضمير الانسانية استحق من الجميع الوقوف أمامه واحترامه عليها.

...


تم نشر هذه التدوينة في موقع صفحات سوريّة ضمن ملف العام الذي مر كثورة الذي قام باعداده ياسين سويحة  والذي ضم:

انتصارات الثورة وحصاد النتائج - أمجد طالب
الملحمة السورية والجسم السياسي المشوه - حسين غرير
الإعلام الشعبي في سوريا - رزان غزاوي
لحظات ربيعية في حياة مغترب - ريتا السلاق
بين الساعة الثانية عشر وساعة الصفر - شيرين الحايك
سلمية.. سلمية - طارق شام
الثورات العربية وإعادة الشان العام لمجاله الشعبي - عبد السلام اسماعيل
أزمة الهوية العربية - فادي حليسو
ماضٍ كالسيف باقٍ كالحبّ - ياسر الزيّات

تعليقات

  1. شكرا جزيلا جزاك الله خير
    بارك الله فيك اخي العزيز

    ردحذف

إرسال تعليق

لم ولن يتم فرض أي رقابة على التعليقات أو المساس بها من تعديل أو حذف.

عبّر عن رأيك بحريّة

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قراءة نقدية في القوقعة : يوميات متلصص

حقارة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى