كاسات هرمية
’’هرمنا، هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية‘‘
صرخ رجل تونسي ثائر في الشارع بهذه الكلمات.أدوات الصحافة العربية التي تعرف تماما ما الذي يحتاجه المشاهد التقطتها ووضعتها في برامجها وفواصل اعلاناتها، لتداعب كلماته ونبرة صوته المفعمة بالعاطفة مشاعر المواطن العربي الذي يعتبر من أكثر سكان الكرة الأرضية اشتياقاً لمثل هذه اللحظات التاريخية، صحيح أنه لا يعرف مفهوم التقدم والانتصار إلا من خلال صفحات التاريخ الغابر، لكن رأسه اليابس الذي تتالت عليه النكسات والنكبات والمصائب وارتفاع الاسعار وانعدام الحريات باضطراد مع الزمن وكأنه قضاء وقدر عليه التعايش معه، بات أكثر مقدرة من غيره من الرؤوس على تمييز الدخان الأبيض للنصر الحقيقي الذي يشتاق إليه ويعرف بحق كيف يميزه عن بقية الانجازات والانتصارات الوهمية التي أجبرته السلطات سنينا طويلا على الرقص في التاريخ الموافق لذكرى حدوثها. رحيل الطاغية لا يقابل حصول الشعب على عصاة سحرية أو يقابل خروج مارد من الفانوس لتحقيق أحلام الجميع، لكن هروب الشخص الذي فرض واقعاً بائساً على المفاهيم الخاصة بالصحافة وحرية الاعلام ومفهوم المشاركة في اتخاذ القرار ومحاسبة المقصر والسارق والفاسد، يمثل لحظة تحمل أملاً بتبديل هذا الواقع، الأمل الذي ينتظر الجميع قدومه منذ عقود من الزمن. زوال الطاغية كان بلا أدنى شك لحظة تاريخية تستحق نزول هذا الرجل للشارع والصراخ بأعلى صوته استقبالا لها واحتفالا بها وهي التي اعادت له الأمل بالعيش بكرامة في بلاده.
هَرِم التعليم وحال الطلاب وانعدام مساحة الابداع شاهد على ذلك، هَرِم اقتصاد الدولة وحجم الفساد الذي فيها شاهد على ذلك، هَرِمت الرعاية الصحية وحال المستشفيات العامة والتأمينات شاهد على ذلك، هَرِم الاعلام وتكرار المقالات المنمقة المنزوعة الارادة شاهد على ذلك، هَرِم هذا الرجل وتجاعيد وجهه شاهد على ذلك. فما من حق أحد ما معاتبته عندما صرخ ’’هرمنا، هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية‘‘.
*****
عندما تكون في أسفل الهرم تجد الكثير من البساطة والمؤازرة، الكثير من الأوضاع المتشابهة، الكثير من محاولة التسلق على أكتافك للارتقاء نحو الأعلى. شيئاً فشيئاً تجد أسلوبك الخاص وترتقي في الهرمية، تضيق مساحة التضامن وتصبح علاقة المنافسة للوصول إلى الأعلى أكثر شراسة ودموية، السقوط فيها يعني بالضرورة مصيبة، تزداد هوة الاتساع بينك وبين الطبقة الأرضية للهرم، تأخذ معك مخزون معاناتك في القاع وتحوله لمحفز ذاتي لك حتى تستمر بالصعود، تصعد وتصعد، تقاوم السقوط وتدفع الآخرين للهاوية، أنت ترتقي وغيرك يسقط، حتى تصل إلى القمة.
وجوه الهرم المتعددة التوجهات تشترك برأس واحد ينتمي شكلياً لكل الوجوه، فلو نظرت من أي جانب من الجوانب سيوحي إليك الرأس انه يشكل مع هذا الوجه الذي تنظر من طرفه لوحة هندسية متكاملة، وأنه كرأس ينتمي فعلياً إلى هذا الوجه دون غيره، لكنه في الحقيقة منافق كاذب يلعب نفس اللعبة مع بقية الأوجه المشكلة للهرم الذي يسيطر عليه. الغريب أن القواعد تلك المنتمية للأوجه المختلفة، ورغم ادراكها حقيقة كونها الآمرة الناهية بموضوع متانة الهرم وثباته وادراكها موضوع استغلال الطبقات العليا وبالذات رأس الهرم لوجودها، إلا أنها تحتاج لوقت طويل جدا حتى تقتنع أن الهرم ثابت بثباتها وحدها دون بقية اجزاء الهرم وأنها الأجدر بتقرير وضع الهرم والبت بشؤونه. بكل الأحوال، أن تصل متأخراً خير من ألا تصل أبداً.
*****
بعد وصول الجميع ورؤية عامل التنظيفات وهو منحني يغسل يديه ووجهه بهدوء وعدم اكتراث بالمصيبة التي كان وحده سبباً لها، تلقّت اذناه خلال أقل من دقيقتين من الشتائم والسباب والبهادل ما يعادل الكمية التي يلقيها استاذ المدرسة على طلابه خلال عام كامل.
العامل لا يهتم اساسا بإنتاجية المعمل ولا بجودة المنتج ولا بحالة الآلات والمحركات، كل ما يهمه أن تكون حالة المساحة الموكل بتنظيفها على خير ما يرام وراتبه على خير ما يرام وليذهب المعمل بعماله واصحابه ومنتجاته وآلياته إلى الجحيم. نظر ببرود واضح إلى الجمع المتكتل حوله، عاد وانحنى للأسفل ليمسك بالأنبوب البلاستيكي ليرفعه للأعلى حتى يتسنى للجميع رؤيته بوضوح، نظر يميناً ويساراً ليسكت الجميع ويسمع التبرير الذي سيقدمه ويدافع به عن نفسه، وقال موجهاً حديثه للذين يحاصرونه كما يحاصر قطيع الذئاب فريسة جريحة: ’’خراي على هلمعمل اللي بدو يوقفوا خرطوم متل هاد!‘‘. والمعنى في قلب الشاعر.
بهالأيام الصعبة ضحكت من كل قلبي فعلاً شر البلية مايضحك..لكن باعتقادي إنو ماحدا شرح للعامل شو دور هذا الخرطوم.. يعني نقص الدورات التدريبية وورشات العمل هي السبب
ردحذفانا بشوف انو الحق علمعمل اللي ربط مصيرو بمصير خرطوم ممكن بايا ثانية ينقطع او يحشّي :)
ردحذفشكرا جزيلا جزاك الله خير
ردحذفبارك الله فيك اخي العزيز