للمرة الخامسة مع المتلصص داخل قوقعته

"كسلحفاة احست بالخطر وانسحبت داخل قوقعتها، أجلس داخل قوقعتي وأتلصص، أراقب، أسجل، وأنتظر فرجا "


شيء غريب في الرواية يجعل من يقرأها يعود مرارا وتكرارا إليها ليختار طواعية الغوص في ثنايا كلماتها وتعابيرها واحداثها.
أهو أحد أشكال الظهور للنزعة المازوشية في الانسان، النزعة التي تستلذ بالعذابات والآلام وعملية الجلد سواء للآخر او للذات، أم محاولة يائسة لإقناع الذات أن الفرد بات أقوى على مواجهة الكلمات. بكل الاحوال من يقرأ القوقعة مرةّ لا بد له في يوم من الأيام من العودة إليها، يعود إليها وهو يعلم أن الكلمات ستزجّه مرة أخرى بمشاعره واحاسيسه وكيانه وانسانيته في عالم السجن المهيب من جهة وعالم القوقعة الاستثنائية ذات الحالة الخاصة والشاذة من جهة أخرى، ليصبح عاريا تماما أمام تسلسل الاحداث التي لا ترضى لنفسها كأي رواية متشكلة من سلسلة من الكلمات والأفكار أن تبقى حبيسة طيات التاريخ ومحكومة بالتعابير، بل تخرج بعنف من الصفحات لتهجم على قارئها وتلفه وتحضنه بسوادها القاتم كقوقعة أزلية تحيط بمن عاش هذا الواقع ومن اطلع عليه، جالبة معها ذكريات وقصص واحاديث شعبية وروايات باتت أشبه بالأساطير يخاف كل واحد منا على مجابهة حقيقتها أو الغوص فيها أو حتى التفكير بتفاصيلها، لتستعمر حول من يختبئ بداخلها فتستلذ بإرسال اشارات الخوف والرعب والحزن لقلبه وبمراقبته مصاباً بضرب من الجنون واليأس.
من يقرأ القوقعة لن يقو بيوم من ايام حياته على نسيان أحداثها ولن يكون يوماً من بعدها كما كان من قبلها، انسان يستطيع أن يضحك ويبتسم على اسذج المواقف ليستمتع بسذاجتها.

اذكر أول مرة قرأت فيها الرواية قبل سنتين تقريبا، يومها لم أستطع النوم طوال ليلتين متتاليتين، ساعات طويلة قضيتها صامتاً معظم الأحيان، أسير على رؤوس اصابعي خائفا أن يلتفت أحد ما إليّ ويرى الخوف في عيوني ويلمس ادراكي واقع هذه الحياة التي نعيش وادراكي مقدار بطشها واجحافها كحياة اختل ميزان عدالتها بحق الانسان والانسانية، انزويت على نفسي لئلا يفضحني خوفي من المشاهد التي كانت تتراءى أمامي والتي رسمت حينها هالة من السواد حاوطتني وحاصرتني في كل تفاصيل حياتي ، لم استطع يومها اختراق هذه الهالة والهروب منها إلا بأسلوب الجبناء، أسلوب التخدير الذي كان التجائي إليه معنويا ضرب من المستحيل فاستحضرته عن طريق شرب الكحول، شربت كمية يصعب على عقلي استيعابها ليدخل بعدها في حالة التخدر والسبات، لأستيقظ بعدها على واقع جديد فيه تشرق الشمس ساعات قصيرة لتغيب من جديد تحت وطئة الليل وسطوته، ليظهر اللون الأبيض بلحظات نادرة وبثواني معدودة ومحكومة بغياب اللون الأسود من المحيط.

كتبت في هذه التجربة ما اعتبرته ’نقداً‘ - قراءة نقدية في القوقعة : يوميات متلصص - ، أراه الآن أقرب ما يمكن لحالة الانكار ومحاولة الهروب من الأحداث والواقع عبر التركيز على الهيكل والأسلوب وطريقة السرد والألفاظ والتواريخ المختارة والصياغة الأدبية. أعيد اليوم قراءة ما كتبت وأنا متعّمد بمشاعر الخجل من نفسي وفعلتي، أفضل لو هربت يومها إلى الصمت على الهروب إلى الأنكار، وإن كان لا بد من الكتابة فكان من الأجدر بي أن اكتب الكلمات بالدموع لا باليراع.

بعد المرة الخامسة لقراءة يوميات المتلصص الجالس في قوقعته، تخالجني مشاعر مختلطة أكثر من اي يوم مضى، تجعلني اتسائل ما الذي يمكنني فعله في حال التقائي بشخص مثل مصطفى خليفة ؟
 قد احضنه وانظر في عينيه بحثاً عن اجابة لسؤالي : هل استطاع تحصين جزء من آدميته وإنسانيته بعيدا عن السياط والشتائم؟ قد ارتمي أمامه وأجهش بالبكاء ضمن طقوس الضعف التي يخجل البشر منها عادة ولا يفضلون ممارستها إلا أمام أكثر الناس قرباً على قلوبهم. هو بالذات واحد من كثيرين أخاف من القاء بهم، أخاف من مواجهة ضعفي الظاهر بأجسادهم وسير حياتهم. لا أعلم هل من الطبيعي أن يعيش انسان في مثل هذا الواقع؟، هل خلقنا لنعيش في هذه الدائرة من الأحداث؟، هل كُتب على جبين أرضنا الشقاء وعلى سكانها العذاب في اوطانهم؟


أعلينا البقاء للأبد محكومون بأمل نعلم تماما أنه لم ولن يصبح واقعاً مهما دارت دائرة الزمن بنا!
أعود إلى اليوميات وفي كل مرة أنهي قراءة آخر سطر منها أزداد قناعة وثقة بأن المطرقة والميزان وبقية رموز العدل والانصاف التي نزيّن بها مباني القضاء ومباني كليات الحقوق، ليست أكثر من فلسفة تعكس قيم سبق وجسدها اليونانيون بثيميس كما نجسدها اليوم بالقصص والحكايا لنرضعها لأولادنا في تعليمهم وثقافتهم وبرامجهم التلفزيونية . العدالة والكرامة وبقية القيم المثالية للحياة ليست أكثر من نزوات شاذة روج لها إنسان متفائل أراد لغيره الإيمان أن في هذه الحياة ما يستحق العيش من أجل الحصول عليه، قيم تداولها أناس يميلون لتصديق مثل هذه الميول ولو لم يتليها أحد ما على مسامعهم لاخترعوها هم بذات نفسهم، فنحن محكومون بالأمل وإن لم يحكمنا لصنعناه وعبدناه لنعلق عليه آمالنا وأمنياتنا.




تعليقات

  1. منذر الريّس13‏/9‏/2011، 1:21 ص

    "العدالة والكرامة وبقية القيم المثالية للحياة ليست أكثر من نزوات شاذة روج لها إنسان متفائل أراد لغيره الإيمان أن في هذه الحياة ما يستحق العيش من أجل الحصول عليه، قيم تداولها اناس يميلون لتصديق مثل هذه الميول ولو لم يتليها أحد ما على مسامعهم لاخترعوها هم بذات نفسهم، فنحن محكومون بالأمل وأن لم يحكمنا لصنعناه وعبدناه لنعلق عليه آمالنا وأمنياتنا."
    لم أقرأ ذلك الكتاب مع أنني سمعت عنه .. لكن دمعة سالت على خدي أثناء قراءتي تلك الكلمات ضمن الاقتباس, فهي للأسف واقع معاش ... لكنها جفت سريعاً ليس كبرياءً ولكن لأنني تذكرت أن لي عدداً من الأصدقاء الذين أعيش معهم قيماً سامية في قوقعة صغيرة معزولة عن العالم, والذين لولاهم لما تردّدت في إطلاق رصاصة رحمة تنهي وجودي في هذا العالم .

    ردحذف
  2. منذر
    من الصدفة تكون انت سابع شخص اليوم بيحكي معه وعندو نزعة للانتحار وبينو وبينها شعراية !

    انا اسود لهلدرجة او القدر عم يوجه العالم لهلنتيجة اللي على ما يبدو حتمية

    ردحذف
  3. ربما تكون رغبتنا في الانتحار او عدم رغبتنا في الحياةسببها أننا نشعر بأننا شخناو تجاوزنا عمرنا الافتراضي ... لان عداد عمرنا باتت تحسبه انتكاساتنا و خيباتنا التي تراكمت فصارت دهورا من القهر و الحسرة و الألم

    ردحذف
  4. منذر الريّس15‏/9‏/2011، 4:03 م

    جبرائيل ... رح أحكي بالعامي ..
    مبارح ... الساعة وحدة بالليل :
    قررت أنام حتى أفيق مرتاح على شغلي .. بس لفتتني جملة (اختبر إنسانيتك)
    كبست على زر الداونلود بالفورشيرد .. كنت متوقع أنو رح تكون هالرواية متلا متل باقي الكتب اللي بنزلا من النت وبتشغلني الحياة عن قراءة أغلبا ...
    الساعة وحدة ونص :
    بلشت أقرا .. قلت لحالي ببلش بقرا كم صفحة و هيك بتحمس لأكملا بوكرا ..
    وصفحة ورا صفحة ...
    بلشت أسب وألعن
    بعدين بلشت عيوني تدمع وكل ما تدمع عيني أمسحا وأكمل
    ما بقا عقلي يستحمل ...
    يلعن الله ... يلعن الله
    صرت أطلع لفوق وأسبّو ...
    بعدين بكيت .. بكيت تماماً .. وبكذا محل بالرواية .. وكنت كل مرة أمسح دموعي لأقدر أطس .. القراءة بالليل عالعتمة مو صحية .. بس لأجري
    حسيت بالقرف من حالي .. من البشر .. وما قدرت أشيل عيني عن شاشة اللابتوب
    انحصرت .. أخدتو معي عالحمام وكملت قراءة
    و كل صفحتين تلاتة بطرقلي كم كفرية .. مسبة .. تحشيكة لهال "مدبر" المزعوم للكون ... لك شلون بيجي من قلبو يتفرج على هيك أحداث من سماهو وما يآتي بأي حركة ؟!!! لك ما عندو ضمير ؟؟ ما يتحرك ويعمللو شي معجزة ولا بس شاطر يعرض عضلاتو عالهبل ؟؟ ... لك عالقليلة ينقذ الأبرياء !!! لك مو بعت جراد على مصر ؟؟ يبعتلو شي جلطة لدكتور السجن !! . .. ببدا بردد جملة بسمعا بمباريات السلة ... (الحكم عر**) ... .. بيعلا صوت مسباتي وبيصير مسموع .. وأهل بيتي نايمين ... بلكي فاقوا ... لأجري
    وكل مرة بحاول أرجع أكمل قراءة بإحساس أقل ..
    خلصت الرواية بال 6 الصبح
    نمتلي ساعتين .. ما بعرف إذا نمتن عنجد .. ورحت على شغلي بدون أي تعبير على وجي
    طول الطريق وأنا سهيان .. مشلول التفكير .. ما بعرف من قلة النوم ولا من الصدمة
    حسيت برخص الحياة
    بلشت أفكر .. لو كنت محلو اش كنت بعمل
    كنت رح أقدر أستحمل ؟
    بس أنا نعنوع !! وبنفس الوقت عندي عزة نفس ..
    فكرت أني عند أول شعور بالذل .. رح أنتحر ...
    ما رح أكون متل العميد .. بس رح أضل أدور على أي طريقة "إنسانية" بتضمنلي موت سريع .. وأنتحر ... عالأغلب رح أنتحر وأنا رافعلن اصبعتي الوسطى ...(كانتصار أخير)
    من وصلتي عالشغل قلت لواحد من رفقاتي .... قريان القوقعة ؟؟
    قلتا بصوت واطي علماً أنو ما عاد حدا يخاف هالأيام .. وعلى حد علمي الرواية متداولة بالسوق
    بس مع ذلك صار ينتابني إحساس بعدم الأمان أكبر من اللي كنت بحس فيو قبل ما تنرفع حالة الطوابق
    بلشت أحكيلو لرفيقي .. تمي بأدنو .. وبصوت واطي


    رجعت من شغلي وقلت أكتب رد
    تذكرت أني بردي السابق ذكرت الصديق على أنو المعزي بهالدنيا .. وربطت الفكرة مع نسيم (مع اني ما كنت لسا قريان الرواية وما عندي فكرة عن وجود هيك شخصية)

    ردحذف
  5. بعض الجمل بالرواية بتكون خارج السياق بتخليك بعد شد الاعصاب اللي عم تعيشو وانت عم تتخيل .. بتخليك تبكي
    اكتر الجمل اللي بتبكيني ولازالت بتبكيني هية وقت بيسرد وبيسرد وبيسرد كل الاحداث ... وبيصل بالتاريخ لراس السنة 31 كانون الاول وبيكتب اول جملة ( ترى ما الذي تفعله سوزان الآن )
    ما بقدر امسك دمعتي وقت بشوف هلمأساة وقت بشوف هلبعد الشاهق بين الحياة اللي عايشها مقارنة باللي بيستحق يعيشها

    انت صار اكتر من شخص اجرمت بحق انسانيتو وخليتو يقراها للرواية
    سألتني صديقة بمرة من المرات ليش بتخلي العالم تقراها وييأسو من حياتن ويكفرو مليون كفرية ؟
    ليش انت كمان بتقراها كل فترة وبترجع تتأزم
    ما قدرت جاوبها وصدقا ما عندي جواب
    يمكن هي الرواية بالنسبة إلي هية ثقب بالحائط سببو ضربة كبيرة علباب
    عم اقدر اتلصص فيها على واقع مجهول ومرعب عم ينعاش
    تماما متل وقت كان الكاتب عم يتلصص بأيام الاثنين والخميس على ساحة المحاكمات ...
    حاسس بوجعك وألمك وانا مريت بنفس التجرمة لخمس مرات ما كانت ولا واحدة منهن اقل اثر بداخلي من التانية
    في بطيات الرواية خيبة امل فظيعة ... شعور احباط كبير بتلاقيو متجلي بوصفو اوجاه العالم بالمكسية بالغبار واللي نسيت كيف تضحك
    "أهذا هو الشعب الذي يتكلم عنه السياسيون كثيرا؟ يتغنون به .. يمجدونه .. يؤلهونه! ولكن هل من المعقول ان هذا الشعب العظيم لا يعرف ماذا يجري في بلاده؟ اذا لم يكن يعرف فتلك مصيبة وإذا كان يعرف ولم يفعل شيئا لتغييير ذلك فالمصيبة اعظم"

    بعتذر ان كنت ادخلتك بطريقة او بأخرى بتجربة قاسية انسانيا وبدوامة من اليأس
    لكن ... هي هية حياتنا .. وهاد جانب من جوانبها .. لا بل جانب فظيع وكبير ومأساوي ..

    ردحذف
  6. تذكرت اوقات جمعنا الفن والتدوين وللاسف كتب علينا ان نعيش اياما طويلة وشاقة فى اوطاننا لا تمر بدون سفك دماء اتمنى تكون بخير و الاخوة فى سوريا او من اى مكان فى الوطن العربى بخير

    ردحذف
  7. كنا صغارا ... كنا باحلام لا تنتمي لهذه الأرض :)

    ردحذف
  8. لازلت لا أدرك كيف تستطيع أن تقرأها مرارا و تكرارا ...

    ردحذف
  9. عندما امكتشف الثقب في الباب وبدأ يتلصص على عالم السجانين
    واظب بشكل مستمر على متابعة مناسبتي الاثنين والخميس رغم دموية هذين اليومين إلا انه كان مواظفبا على متابعة أدق التفاصيل وتدوين فكريا ملاحظات حول سلوك كل من في الساحة والربط بين وجوده وفترة قدومه وسلوكه

    ان فهمت سبب تلصصه على ذلك العالم رغم ادراكه حجم المصائب والهول الذين فيه .. ستفهمين تماما سبب عودتي للكتاب مرارا وتكرارا

    ردحذف

إرسال تعليق

لم ولن يتم فرض أي رقابة على التعليقات أو المساس بها من تعديل أو حذف.

عبّر عن رأيك بحريّة

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قراءة نقدية في القوقعة : يوميات متلصص

حقارة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى

وسائل الاعلام " المفقودة "