بين الثورة التونسية والمنتخب السوري .. ليرتان



تعامل الشارع السوري مع فوز المنتخب الوطني لكرة القدم المشارك في نهائيات أسيا ومع تطورات الثورة التونسية على نظام الحكم بأسلوب تفاعلي واحد قد تكون كلمة "العاطفية" عنواناً مناسباً له .
خصوصاً أن تفاصيل القضيتين متشابهة لحد كبير، وإن اختلفت الأبعاد الجوهرية بين كرة ممتلئة بالهواء وحياة شعب يبحث على طريقة لإثبات وجوده على خارطة العالم .

المنتخب السوري حقق معجزة بتاريخه الكروي عندما قدّم، وبعد سنوات من انعدام الثقة بقدرته على تحقيق أي نتيجة، أداءً مشرفاً أجبرنا نحن السوريين قبل غيرنا على احترامه. لكن الأداء الرجولي للاعبي المنتخب لم يشفع لفساد المعنيين بالرياضة السوريّة بشكل عام والمنتخب الوطني بشكل خاص، العاطفية في موقفنا كسوريين كانت باعتنائنا بالنتائج واهتمامنا بها وعقد الآمال عليها، الأمر الذي ذهب أدراج الرياح بعد الخسارة المؤلمة مع منتخب الأردن.
ولو فازت سوريا البارحة وتأهلت للدور الثاني ، هل يعني أننا نسير على الدرب الصحيح وأن حال الرياضة بألف خير ؟
أنا متأكد أننا في حال تحقيقنا نتائج أفضل مما حققناه لما طالب أحد ما بمحاسبة المعنيين بالرياضة ولما اهتم أحد ما بصنع رياضة حقيقية بعيداً عن انتظار طفرة من هذا الزمان ! فعاطفتنا تجعلنا نهتم بالنتائج فقط ولا نرى أبعد من أنفنا، فقط ننتقد عندما نفشل في تحقيق النتائج ولذلك سنبقى ننتقد دون جدوى أو فعالية وستبقى صفة العاطفية والغوغائية مسيطرة علينا وعلى أسلوب تفكيرنا .

عاطفية متابعة الأحداث وانتظار حصد الثمار من حيث لم تُزرع تتكرر بشكل حرفي تقريبا مع موقفنا كسوريين من ملف الثورة التونسية. علو صوت الشعب التونسي على صمت السنين كان حدثاً هاماً لابد من متابعته باهتمام كونه خارج عن مألوف سلوكيات شعوب المنطقة، لكن وبالتمعن بقيم الثورة وأسبابها نجدها قريبة وبشكل كبير للأداء الرجولي لرجال المنتخب السوري، فيها من العفوية الكثير ومن الإرتكاز على الأساسيات القليل لا بل القليل جداً  ولم ترتقي لحتى هذه اللحظة لمرحلة طرح فكري جديد يضمن عدم العودة لحالة القمع الديكتاتورية ويفرض حالة جديدة من القيم السياسية وآلية تداول السلطة .

قدرة الثورة على تحقيق نتيجة مبهرة بتخلصها من حالة القمع الديكتاتورية منعتنا من رؤية بقية التداعيات ، فالنجاح المبدئي لا يعني بتاتاً أنها كثورة شعبية تسير على النهج الصحيح ، فهي خطوة جريئة لا محال لكننا تعاملنا معها كنتيجة نهائية لحال شعب وجد في الثورة سبيلاً للتغير ، في الوقت الذي يفترض فيه أن تكون الثورة في وجه الديكتاتورية مجرد خطوة يستوجب ملاحقتها بعشرات الخطوات الممنهجة وفق سلوك ديمقراطي واعي وحر ولا أقصد بالخطوات الممنهجة إعادة تشكيل حكومة جديدة بل اعتماد نموذج فكري لتداول السلطة يتم عليه تشكيل الحكومة. رحل الديكتاتور برمزيته الحاكمة المتجسدة بالرئيس لكن الديكتاتورية كفكر وقيمة لا تزال قائمة ضمن البنية الفكرية للشعب . فلو كانت الثورة ( وهذا ما أخشاه ) هدفها إسقاط الحكم والبحث عن لقمة العيش فهي لا تسير على الطريق الصحيح واقتبس هنا للكاتب نبيل صالح رئيس تحرير جريدة الجمل الالكترونية عن مقاله "عن الثورة والصداقة والإسلام وتلفزيون الأبيض والأسود" بتاريخ 15/1/2011
ثورة تونس ليست ثورة ملونة، هي ثورة من زمن الأبيض والأسود، ثورة الفقراء المستمرة على الأغنياء، وقد هرب المرشد العام للأغنياء وبقي الأغنياء والثعالب والقطط وغرفة التجارة التي تحكم قوانين اللعبة السياسية في البلدان العربية، حيث الفقراء مازالوا يريدون الحياة بينما القدر يستجيب للأغنياء، وهذا ما غاب عن قصيدة الشاعر العظيم أبي القاسم الشابي.
فمنذ ثورة الشاب الفقير محمد بن عبد الله في مكة وحتى آخر شهيد في شوارع تونس، والفقراء يشعلون نار الثورات ليأتي الأغنياء ويتدفأون عليها، فقط لأننا شعوب لم تتجذر ثقافة الديمقراطية في علاقاتنا اليومية، لهذا نقول أن الديمقراطية قبل الخبز لأنها هي الضامن لاستمرار توزيعه بين الناس بالعدل، وإذا لم يفعل التوانسة فسيأتي طامح آخر يربض على صدروهم لثلاثين عاماً ميلادية قبل أن يفر بثروته إلى السعودية..
التحولات السياسية والاجتماعية الكبرى في التاريخ السياسي والثقافي لأوروبا ارتكزت بشكل مباشر على الثورة الفرنسية التي قامت في فرنسا وأصبحت فيما بعد منارة لأوروبا . لم تكن منارة لطريق الثورة بل للقيم التي نادت بها من حرية وعدالة ومساواة . عندما نذكر الثورة الفرنسية بقيمها لا بد من التطرق إلى رواد عصر التنوير من المفكرين الذين خلدهم التاريخ كفولتير الذي ركز على التفاوت الطبقي وجان جاك روسو الذي وضع تصورا منطقيا وواقعيا لقيمة المساواة وغيرهم من رواد الفكر التنويري الذين بحثوا في تأسيس عقلية قادرة على تخيل الشكل الأمثل للواقع وقادرة على اتخاذ القرارات المناسبة .
لم تكن الثورة الفرنسية لتدخل التاريخ كحدث مفصلي لو لم تقدم طرحا جديداً لمفهوم السلطة والدولة ولو لم تضع أسسا وقيما فكرية للمجتمعات ، فلولا نشاط الفكر التنويري الذي سبق الثورة الفرنسية لكانت أشبه بتمرد كبير أطاح بالحكم كرموز ولم يطح بالعقلية الحاكمة كأسلوب ومنهج . ولاقتصرت أبعادها على التمرد على الحال الاقتصادي المتردي ورمزية الطبقات البرجوازية بأسمائها لا بمنهجيتها .

كلنا تابعنا انجاز الشعب التونسي بأعين براقة وتفاعلنا معه كتفاعلنا مع فوز سوريا على السعودية من مبدأ الشعور باقتراب حلم راود المخيلة طويلاً ، حلم كان قبل فترة وجيزة محكوم عليه باستحالة حدوثه أنتقل فجأة وبلحظات إلى حالة مشروع واقع ننتظر وقوعه ، ولكننا لم نعطِ بالاً للأسس التي يجب بناء آمالنا عليها لنقلها من خانة الآمال إلى خانة الواقع المشروع تحقيقه والمنطقي حدوثه .

أتمنى أن أكون مخطئا في وجهة نظري وأن تكون استجابة القدر قد تمت لشعب لم يرد الحياة فقط كما وصفها الشابي بل لشعب يعلم مسبقا نوعية الحياة التي يبحث عنها ليحيا في كنفها .وألا تكون الإشارات المضيئة التي نشهدها اليوم مجرد حلويات رائعة الشكل نراها من خلف الزجاج ولا نملك القدرة على شرائها أو القدرة على فهم أهميتها، فقط نتمنى ضمنياً الحصول عليها تماما كصورة العملة المعدنية الملتصقة بالأرض في البداية، وإن لم تكن مهتماً لها كقيمة إلا أنك ستشعر بشكل أو بآخر بالأسى لاستحالة حصولك عليها .

الصورة من ساحة سعد الله الجابري - حلب 18/1/2011

تعليقات

  1. أخ غابي أنا معك بهالقضية مية بالمية ويمكن بيوصل توافقي معك بطرحك لهل موضوع لدرجة التطابق، المشكلة بالنهاية يمكن أنو الأنظمة القمعية والديكتاتورية بتفرض سلطتها وقمعها وإرادتها الفردانية على المجتمع، يمكن كمان بتفرض عليها طريقة فهمها لبنية السلطة الأبوية المحضة وبالتالي بتلاق يحالها الشعوب بعد الثورة بإطار يفرض عليها نوعا ما تبني وجه نظر السلطة الفردية السابقة، يعني راح الديكتاتور، معناها صار بدنا حاكم جديد وبنفس النظرة الدستورية يلي ممكن ترجع تعيد الكرة مع الحاكم الجديد وتعطيه خيوط القوة السلطوية وتبقيه إلى ما لا نهاية، طبعا ممكن نفس الأمر حصل بفرنسا بعد الثورة وقت ظهر تيار طالب بالبحث عن أحد أفراد الأسرة المالكة لتعيينه كملك جديد ، لذلك ما بستغرب تحالف أحزاب المعارضة مع حزب التجمع الدستوري لتكوين الحكومة مع أنو هالحزب كان رمز للسلطة السابقة، طبعا هاد كمان ما بيعني نسف الحزب وملاحقته متل ما صار بالعراق، و إنما متل ما ذكرت حضرتك، لازم تنوجد البنية التشريعية والدستوية الجديدة القادرة على إعطاء الصيغة الفضلى للديمقراطية،

    ردحذف
  2. بالضبط احمد هاد اللي عم اقصدو
    بالاخير ما بكذّب الغطاس الا المي
    وما بوضحلنا حقيقة القصص الا المراقبة الموضوعية للأحداث بتفاصيلها الدقيقة

    تحياتي

    ردحذف
  3. مرحبا غابي،
    أوافقك الرأي أنّه مالم تتوافر ارادة سياسية ناضجة ستجهض الثورة...
    أعتقد في المقابل أن فرص نجاح الثورة التونسية مرتفعة نسبيا، فالشعب التونسي مثقف ومشبع إلى حد جيد بالثقافة الديمقراطية، كما أن قواه الاجتماعية منظمة ولها تاريخ طويل ولولا سطوة النظام وعنفه لما دام كل هذه المدة

    ردحذف
  4. أعتقد أن الحكم على الثورة التونسية يدخل ضمن التخمين
    القراءة الحقيقية تتم في نهاية التجربة عند حصد النتائج والوصول إلى الاستقرار

    بخصوص الشعب التونسي أنا صراحة لا املك اي معلومة تذكر باستثناء أنه شعب علماني وتبين فيما بعد ان العلمانية مفروضة فرض عليه ( مع اول سقوط للنظام بدأت الاذاعة الرسمية قطع بثها الارضي والفضائي لبث الآذان بمواعيده الخمسة اضافة لاقامة صلوات جماعية في الطرقات )
    اليوم تم حل الحكومة لوجود اعتراضات على الاسماء المطروحة فيها ، قد تكون اشارة تخبط عدم وجود اسس او اشارة وعي ورفض تمرير المصالح المخالفة لارادة الشعب

    في النهاية سنكتشف حقيقة الواقع
    تماما كما ظهرت امامنا بعد مباراة الاردن

    يا هلا بباسل

    ردحذف
  5. ما كتير بوافقثك يا غابي بعنصري المقارنة
    انت عم تقارن امر التعبير عن التعاطف والتاييد الو ما عليه اية عواقب او نتائج
    مع حدث سياسي بامتياز
    والتعبير عن التعاطف او حتى الاعجاب فيها الو تداعيات كبيرة جدا
    لانها بشكل او باخر بتعكس خالة تمني انو يصير عنا شي مشابه للصار بتونس
    هلق بوافقك انو الثورة لمجرد الثورة الها تداعيات كبيرة
    بس كمان تجاربنا السابقة عبارة عن التنظير لمجرد التنظير
    الكارثة بهالموضوع انو انت لما بدك تحكي عن ديمقراطية وتفكير وتعبئة سياسية بدك يكون عندك شعب قادر يفكر
    وشعوبنا صايرة شعوب جائعة وانا بعرفها من حالي لما بكون جوعانة او متضورة جوعا فما عاد الطابق الفوقاني يشتغل بيصير الهم اني اكل شي ولو بسيط يخليني قادرة وقف ع الاقل وبعدين بقعد بسال انا شو ممكن سوي لحسن وضعي
    بس بالبداية ما رح يكون عندي هالقدرة
    وهي حالة التونسيين ما عاد مهم عندهون هم الا انو بدنا ناكل ولو ما وصلنا لحالة الشبع
    شغلة مخيفة هي صح وبايدك انو الثورة العشوائية ممكن تروح هيي ونتائجها ع ايدي ( سياسيين ) بس بالاخير شو الحل؟ بتوقع ما في حل
    ع فكرة حتى الثورة الفرنسية لما بلشت كانت كارثية وبعد فترة من الثورة رجعت الملكية بعد تعهد نابليون للصدق مات بعرف شو رقمو بس بالاخير الثورة الفرنسية ما قدرت تستمر فورا وانما اجتها حالة انقطاع

    ردحذف
  6. يمكن انا ركزت علينا كسوريين من موقفنا من هلنقطة
    انبهرنا بالفكرة ونسينا الأساسيات اللي لازم تنبنى عليها
    قد تكون تونس مؤسسة فكريا ومستعدة للتطور وعندها تصور كيف ممكن تطلع من عنق الزجاجة
    بس نحن كسوريين عم نتابع الخبر وعم نتفاعل معو .. ما حسيت في تدقيق على هلجانب والكل عم ينظر لنقطة النتائج ونسي نقطة التأسيس للوصول إلى النتائج هي

    نرجع لمقارنة تونس مع الثورة الفرنسية
    بالجانب الفرنسي مرقت الثورة بعدة مراحل واستمرت لسنوات عديدة وهلشي سبب وضعها كنقطة مرجعية عندك مثلا الثورة الانجليزية على تشارلز الاول كان فيها عدة مراحل وفيها كتير من الاحداث الدرامية وقدرت تلغي لفترة من الفترات الحكم الملكي ! بس ما انشرت لأنها ما قدمت اسس فكرية متل نظيرتها الفرنسية تميز الثورة الفرنسية انها كانت عم (تخلق) قيم ما كانت موجودة اساسا

    اليوم بلاد الشمال الافريقي ذات الغالبية المنتمية للوطن العربي والإسلام بحس عندها حقد على كلشي اجنبي لأسباب يطول شرحها بس ما منختلف انو قيمة الحقد موجودة وملموسة

    يا ترى رح يتم الاستعانة بأفكار الغرب ولا رح يكون في محاولات خلق خط جديد ؟ وبايا تيار رح يكون هلخلق وكيف ممكن يمشي برأيك ؟
    بدنا نشوف ظهور علمانية بصيغة إسلامية ( بقصد انها مقبولة اسلامياً ) ولا عودة لتطبيق الشريعة والمناداة بدولة دينية ؟

    الايام بتكشف كلشي باعتبار انو هلق مافي شي واضح وبالاصل مافي شي متفق عليو

    ردحذف
  7. المنتخب السوري يستطيع أن يفوز على أقوى منتخبات العالم لاكنه يحتاج إلى دعم مادي ومعنوي وأن نقطع جذور الفساد في اتحاد الكرة

    ردحذف

إرسال تعليق

لم ولن يتم فرض أي رقابة على التعليقات أو المساس بها من تعديل أو حذف.

عبّر عن رأيك بحريّة

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قراءة نقدية في القوقعة : يوميات متلصص

حقارة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى

وسائل الاعلام " المفقودة "