مهنة الشحادة

جمعة

الحديث عن ظاهرة الأطفال المتشردين و"مهنة" الشحادة يفتح أبواباً يصعب توقع النتائج التي تنتج عن اقتحامها .
الحادثة التي قرأتها في مدونة بسما ( خمس ليرات ) نبهتني على مجموعة الأحداث المشابهة التي حدثت ولا تزال تحدث معي بتواتر شبه يومي .

في صيف عام 2005 جاءت مجموعة من الأطفال ،
في البداية لم يكن عددهم يتجاوز الخمسة وأكبرهم لم يتجاوز حينها العاشرة من عمره ، ، كنا نراهم ظهراً في الساحة التي يجتمع بها طلاب المدرسة بعد انتهاء الدوم، ليتنقلوا بين الطلاب والمارة بهدف تحصيل ما يمكن تحصيله .

أذكر تماما أول مرة جاءني واحد منهم ، كان متسخ الثياب كريه الرائحة يحاول استغلال وجود فتاة معي في الطريق ليحرجني أمامها وليضايقنا لدرجة يجبرني بها على إعطاءه ما يريد مقابل التخلص منه . عباراته كانت روتينية بعض الشيء ولم تستدعي انتباهي ولا حتى تعاطفي ، دعاوي لله أن يوفقني في حياتي وأن يجمع بين رأسي ورأس تلك الفتاة على مخدة واحد وإلى آخره من العبارات التي حفظها كل واحد منا عن ظهر قلب لكثرة تكرارها على مسامعه . سار فترة من الوقت بجانبي وأنا أكمل حديثي بشكل اعتيادي دون أن أعيره أي اهتمام يذكر حتى انحنى ليلمس حذائي ويقبل يده من بعدها . أحسست أن فعلته تلك زعزعت كياني وربطت لساني ومنعتني من استمرار تجاهله ومتابعة السير ! ، أن يقبل أحد ما قدمي مقابل مبلغ من المال أمر أشعرني بحقارتي !
استصعبت الموقف وشعرت أنني بتجاهلي له أشبه الصورة النمطية للإنسان الأرستقراطي الحقير المستلذ بإذلال البشر والسيطرة عليهم .

بعد أشهر قليلة من وجود مجموعة الأولاد في المنطقة ونتيجة للزيادة غير المنطقية لأعدادهم ولآلية انتشارهم المنسق شعر الجميع أن القصة أكبر من مجرد وجود مجموعة من الأطفال المتسولين يتنقلون ظهراً بين مجموعة من الطلبة ، فهؤلاء الأولاد استقروا في المنطقة واتخذوها مركزاً لتسولهم وبدأت صيغة وجودهم في المنطقة تأخذ بعداً جديداً ، فبعد أن انتهت إمكانية تسولهم واستخلاص القطع النقدية من المارة - بحكم أن وجوههم قد أصبحت مألوفة لدى جميع أهل المنطقة - اتجه نشاط " عصابة الشحادة " إلى استثمار المناسبات والأعياد ، في عيد الميلاد يرتدون قبعات بابانويل وفي عيد الحب تراهم حاملين الورود الحمراء ليتلقفوا كل ثنائي يسير في الشارع ، وفي الأيام العادية يكتفون ببيع بعض المنتجات الرخيصة إضافة إلى محاولة استخلاص الطعام الذي يتناوله المارة بحجة الجوع وبقائهم لمدة تفوق الأسبوع دون طعام أو شراب .

اليوم وبعد مضي خمس سنوات ، لا يزال الأولاد المتشردون يختفون مساء كل يوم ليعودوا للظهور في صباح اليوم التالي بنفس الثياب ونفس الوجوه ونفس الجمل والمصطلحات .وأًصبح هؤلاء الأطفال معروفين بالنسبة لأهل المنطقة ، ومعروف طباع كل واحد منهم
فزكريا ( أو زكور بحسب ما هو معروف ) بائع علب اليشكلس الصفراء مشهور بظرافته ونعومة صوته وتميزه في سرعة انجازه للعمليات الحسابية وخالد الطفل الصامت الذي يجلس في فصل الشتاء حافياً ومنكمشاً على نفسه دون أن يوجه كلمة واحدة للمارة !
وجمعة ( الطفل الأكبر سنّاً ) ملمع الأحذية المشاكس ( الصورة في الأعلى ) ، مشهور بحقارته وبضربه لبقية الأطفال في حال لم يقاسموه "الغلة" إضافة إلى كونه مدخن ! وصدقاً أقول ، منذ سنتين ( أي من يوم معرفتي جمعة ) وحتى هذه اللحظة لم أستطع تخيل كيفية حصول طفل لم يتجاوز العاشرة من عمره على السجائر ، أيقدمها أحد ما له أم يقوم هو ذاته بشرائها ؟ بكل الأحوال يصعب علي تخيل آلية وصول السجائر ليد طفل . ومع ذلك تبقى قصصهم المتضاربة وغير المنطقية التي يقدمونها للمستفسر عن سبب امتهانهم للشحادة معلقة بإشارات استفهام كبيرة . بعضهم يقول الدباجة الاعتيادية المتعلقة بمرض الأم والأب وخلو العائلة من معيل ، بعضهم يقول أنه سعيد "بعمله" وأنه اختاره بنفسه على أن يذهب إلى المدرسة . تتعدد الإجابات التي لا يمكن تصديقها ويبقى الواقع الذي يدفعنا للتساؤل عن سبب تجمع كل هذا العدد من الأولاد في واقع واحد وطريقة عيش واحدة ، هل هو ظلم الحياة ؟ بصراحة لم أعد مقتنع بأن الظروف وحدها من تلقي بالأطفال بهذا الشكل المهين في الطرقات .

فمن خلال تجربتي الشخصية في المشاركة بالعديد من الأعمال التطوعية التي تستهدف طبقة المحتاجين بشكل خاص وجدت أن المحتاج الحقيقي والذي فعلياً ( ظلمته الحياة ) لا يرضى أن يمد يده للآخر ولا يرضى أن يتخلى عن جزء صغير من كرامته ( والتي عادة ما يراها ثروته الوحيدة في هذا العالم ) .
وبالرغم من تعاطفي الكلي مع هؤلاء الأطفال ولطافتي - المبالغ بها في بعض الأحيان - في التعامل معهم ، أرى أن العملية منظمة وليست مجرد انتشار فردي لأطفال ساءبت الحياة أن يكونوا هنا .

على أن نحيا يوماً في مكان يحترم الإنسان ويمنع المجرمين من استغلال الطفولة
تصبحون على وطن


تعليقات

  1. قلتلي يا غابي استغلال الطفولة...
    آآآخ شو بدو يحكي الواح ليحكي الواح، واذا حكى الواح بتقولوا حكى الواح واذا ما حكى الواح بتعرف الباقي.
    عموما جهزلي حالك لاستغلال الطفولة يوم الجمعة 26 الشهر

    ردحذف
  2. نسيت...
    هالصورة بينشحد عليها، شكرا

    ردحذف
  3. ابشع شيء في الدنيا هو استغلال الاطفال وخاصة في مهنة الشحادة هذه

    ردحذف
  4. @ kenan
    على قولة ستي
    خليها بالقلب تجرح ولا تطلع لبرا وتفضح
    بس بخصوص الجمعة 26
    راسم براسي مخطط اخو اختو
    على صلاة الظهيرة منكون قريبين من الجامع الأموي الكبير ومعنا علبتين شيكلس وورقتين تبع ( اهلا صديقي أنا أبصم وأبكم وأعمى لا أستطيع شرب الشاي بلا سكر .. الرجاء المساعدة )
    صدقني رح تطلع سفرتك ببلاش :D

    @ amer
    في مسابقة أبشع مافي الدنيا يوجد الكثير من المنافسين ، استغلال الطفولة بالتأكيد واحد من أبرز المرشيحن

    ردحذف
  5. مرحبا :
    اول شي مرسي مسيو عاللفتة
    تاني شي المشكلة مو بالشحادة بحد ذاتها .. المشكلة فينا نحنا اللي شايفين الغلط ئدام عيوننا و ساكتين..

    بصراحة حاولت و حاولت كتير .. بس بالاخير تبهدلت و ما مشي الحال اوصل لشي ..


    تحياتي

    د.بسمة (^ ^)

    ردحذف
  6. الله يوفقك يا رب!
    عندي بنطال هيك مخزوق وكنزة مكتوب عليها "كلب الشوارع ينبح" اذا بيمشي حالهم بحلب منشان البسهم لأنو هون بالساحل تمام والدخل اليومي حسب الخزق :)

    ردحذف
  7. @ د.بسمة

    ما بعتقد المشكلة فينا ، بقصد بالفينا انا وانتي بقية المجتمع العادي
    ما نحن اللي عم نخلق هلنماذج هي وما علينا مهمة إيقاف هلمظاهر أو بالأحرى ما من صلاحياتنا ايقاف هلمظاهر

    في واقع اقتصادي مقرف عم تعيشه البلد وهلشي ما ممكنه ننساه ، وفي إغفال قضائي للقصة وعدم توعية لضرورة تأمين أجواء ملائمة للأطفال بشكل خاص

    لهيك بشوف انه بهي القصة تحديدا انا وانتي ما عنا القدرة على تغير شعرة أو تحسين الواقع بشي ( اللهم إلا الاشتراك بأعمال تطوعية اللي ممكن تشمل 0.01 % للعالم .

    بالنسبة للإشارة لصفحتك فهاد واجبي أكثر مما هوي لفتة او كرم اخلاق مني

    تحياتي الك

    ردحذف
  8. @ كنان

    بحلب المعادلة شوي بتختلف
    كلما كنت حقير أكتر ووقح اكتر كلما كان مردودك أعلى
    بجوز توصل معك القصة لضرورة ضرب الشخص حتى يعطيك المبلغ الذي هو

    ما بقولولك عن الحلبية بخلاء ؟ أي بخلا ونص وخمسة
    :D

    ردحذف
  9. للأسف هذي الظاهره متنشره عندنا
    وخصوصا لما يستغلون الأطفال لهذا العمل المشين

    يعطيك العافيه اخوي

    ردحذف
  10. أنا مع كلام @Korea,

    هذه الظاهرة منتشرة بكثرة, ولكن ليس بسبب الحاجة...

    ذات مرة جاء إلينا مجموعن من هؤلاء الأطفال بينهم طفل ينظف الأحذية و الباقي لا يعملون, و كالعادة طلبوا منا بعض النقود بسبب مرض والدتهم أو شيء من هذا القبيل, فأعطى أحد أصدقائي نقوداً للفتى الذي يعمل فقط لكونه يعمل و لا يشحد, فنظرت إلينا فتاة من الأطفال و قالت "مالنا من نيتكون" ثم أخرجت مجموعة من العملات تتجاوز قيمتها الـ5000 ليرة سورية!
    الحادثة حدثت في منطقة المالكي قرب حديقة الجاحظ, و بعدها قررت ألا أعطي أحد هؤلاء المتسولين الذين لا يعملون أبدا :S

    ردحذف
  11. جابرييل منذ الأزل وامتهان هذه المهنة موجود وهو (بيع وشراء) يسوقون سلعة الرأفةوالشفقةمقابل المال ومن شب على شيء شاب عليه هؤلاء الأطفال مشاريع مستقبلية لمجرمين ولصوص لا حول ولا قوة الا بالله ، وقد قيل اذا أردت أن تعرف مجرمي الغد فابحث عنهم في ثياب أطفال اليوم
    مدونتك دمها خفيف للأمانة

    ردحذف

إرسال تعليق

لم ولن يتم فرض أي رقابة على التعليقات أو المساس بها من تعديل أو حذف.

عبّر عن رأيك بحريّة

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قراءة نقدية في القوقعة : يوميات متلصص

حقارة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى

وسائل الاعلام " المفقودة "