قراءة في الصبابة المغربية
أمضيت الشهر الماضي وأنا اقرأ في الصبابة المغربية للكاتب السوري الدكتور"طوم سمعان" أو كما يحب أن يعرّف عن نفسه باسم "سرغون ت.س"
الكتاب من الحجم المتوسط وعدد صفحاته يزيد عن المائة بقليل إلا أن الشكل المقدم فيه ( مواقف وأقوال لا يتجاوز الواحد منها الخمسة أسطر ) يمنعك من قلب الصفحات بسرعة ويجبرك على أخذ فواصل زمنية بين المقولة والأخرى تقضيها محلقاً بفكرك شارداً بذهنك ، لتعود بعد لحظات من رحلتك راغباً ومحتاجاً إلى قراءة المقولة التالية والدخول مجدداً في حلقة التحليق والشرود التي تستمر لبعد انتهائك من قراءة الكتاب .
تبدأ أولى رحلات التأمل والتفكير مع عنوان الكتاب "الصبابة المغربية" ومع اسم الشخصية التي خلقها الكاتب واختارها ليروي عن طريقها أفكاره وليقول على لسانها ما يجول بخاطره ، اسم الشخصية تلك هو " الشيخ عبد ربه التائه " .
مع إشارة الاستفهام الكبيرة التي يتركها الاسم في نفس من يقع الكتاب بيده ، مدفوعاً بالفضول والرغبة لمعرفة السر الكامن وراء الأسم الافتراضي الظاهر على غلاف الكتاب يبدأ القارئ الغوص في صفحات الكتاب بحثاً عن الإجابة الشافية والمزيلة لهالة الغموض المحيطة بالاسم ، ليجد نفسه قد وقف مجدداً أمام أسئلة جديدة وإشارات استفهام أكبر من تلك المحيطة باسم الكاتب ، أسئلة يطرحها على نفسه مع كل موقف أو مقولة جديدة ، سواء كانت تلك المقولة نابعة من الفكر الفلسفي الإنساني أم كانت وصفاً لحالة نعيشها في الواقع أو قراءةً خاصة من زاوية جديدة لحالة إنسانية اعتدنا عليها ولم نفكر يوماً في تفسيرها أو التفكير فيها ، أو حتى كانت مجرد سطور وكلمات يتجلى فيها الفكر الصوفي الوجداني بأبهى صوره وأجمل تعابيره في العشق الإلهي والتعبير عن امتنان العاشق لله في عشقه وفي ذلك يتطرق أحياناً للكتب السماوية المقدسة بعد أن يقتل الحرف ويستعين بالمعنى المحي للنفوس . تنتهي رحلة القارئ للصبابة المغربية بعد تحصيله المئات من الأسئلة التي لا يستطيع طردها بسهولة من تفكيره ، بجعبته كل تلك الأسئلة الغريبة المتعلقة بتفاصيل ظن نفسه مدركاً حقيقتها لينصدم أنه لم يكن يعلم بتاتاً حقيقة المعنى الكامن ورائه ، أسئلة كثيرة لدرجة ينسى بها فضوله الأولي المتعلق باسم الشخصية التي تروي تلك الأقوال ويصبح اسم " عبد ربه التائه " غير مستحوذ على اهتمام القارئ مقارنة بالأسئلة الأعمق التي تدور في ذهنه .
مزجت الصبابة المغربية في كلمات الشيخ " عبد ربه التائه " الإبداع اللغوي للغة العربية من جمالية الألفاظ والصور مع صلاة الزاهد وصرخة العاشق الضائع في بحر الحب والهيام ، أكان ذلك العشق موجهاً إلى الله أم إلى الحبيب ؟ سؤال ستبقى تطرحه على نفسك طوال قراءتك في الكتاب وسيبقى كمئات الأسئلة المشابهة له مفتوح الاتجاهات يحتمل العديد من الإجابات التي قد تراها منطقية في الليل لتستيقظ بعدها نهاراً لتستنكرها وتنعت نفسك "بالغباء" لاقتناعك بها .
انقل لكم بعضاً من الأقوال والمواقف التي استوقفتني بشكل استثنائي :
- وقال لي : الأموات بعيدون والأبعد منهم من تحسبهم أحياء وهم الغارقون في الجبن والعجز عن الحب
- وسألت مولاي الشيخ : أَتُعشقُ المرأة لجمالِها أم لمالها أم لدينِها ؟ فقال : هذا كلام تاجر وليس كلام عاشق .
- وقال لي : الشمس المتأخرة في الشروق تستعجل في الغروب ، فاعلم ولا تنخدع .
- وقال : عشقٌ في عمر الورد ، وعشقٌ في آخره .. تتغير الأغنية لكن اللحن يبقى ، والجاهل الغبي ينكر ذلك ويحدث عن طعم شيء لم يذقه
- ونقل ، رحمه الله ، عن بعض مشايخه : العشق دقت معانيه وبعدت أغواره ..وإن أنكر أهل الظاهر الأمرَ فهم محقون لأن الظواهر تنتهي إلى حيث ينتهي النظر والسمع، بينما للقلب والبصيرة مسالك أخرى
- وقال مرةً : ويأتي العشق مثل مطرٍ ربيعيٍ طال انتظاره .. فتحاً من الله ونعمة . وأضاف : ولا على العاشق إن أصابه شيءٌ من الجنون في هذه اللحظة لأنه تخطى العتبة إلى عالم أكمل . وقال : يومها تُكشف له السموات كلها ويُخص له اسمٌ من الأسماء الإلهية لا تباح لغيره ويقال له قد غُفر من ماضيك ما ضاع هباء ، فاحذر أن تخرج من الوحدة للتشتّت . فما الوجود إلا ظاهر الواحد ، وما أُنعم عليك إلا إشارةٌ لطيفة وصورةٌ دقيقة لعين الأحد وفيض الواحد في الكل .
- وقال : أما أنا فأقول محبة العالم والإنسان من محبة الله ... وما العشق إلا ظاهر المحبة . وقال مرة : محبتك الله هي محبتك لكل من خلق .. ولكن إياك أن تقتصر حبك على ذاتك ، فإنه يغار .
- وقال : مثله مثل غيمةٍ تبتدئ من البحر لتعود إليه .
- وقال مرةً : إن لم تجد الله في ابتسامة طفل وليد ، وفي دمعة عجوز ، في لمسة حبٍ .. لن تجد الله في الكتب .
- سألهم احدهم عن الحب الإلهي فقال : مثل أعمى يرفع وجهه إلى السماء ،بينما هو يتلمس في الأرض طريقه .
- وقال مرةً : وخمرة الحب ... كم هي ممتعةُ كأسها الأول ، وكم مرٌ تفلها حين تنتهي .
- وقال : السعادة هي نهاية الحزن ... ولكنها تنتهي في الحزن دوماً .
- ونقل عن الإنجيل : ناموس الحرية والعشق اعتقكم من ناموس الخطيئة والموت ، فلا تخدعوا قلوبكم ولا تحاكموا بلا رحمةٍ فالرحمة فوق الحكم .
- وقال لي مرة : جعل القدماء للحب عدواً وهو الحب العابر .. وللمحبة نقيضاً وهو حب الذات .
- وسألته هل يستوي المؤمن والكافر في العشق ؟ فقال : لا . للعشق مراتب ، والأكثر عشقاً .. أعلى مرتبةً .
- سأله أحدهم : واحدٌ آمن بالآخرة ولم يؤمن بالدنيا ، وآخر آمن بالدنيا ولم يؤمن بالآخرة ، وثالثٌ آمن بكليهم .. فأيّهم أصاب ؟ فقال الشيخ : الذي عاش عاشقاً محباً لا يرهقه جشع إلى الدنيا ولا خوف من آخرة .
- وقال لي : العشق يكشف حجب السموات ، والناس متفاوتون في العشق ، متفاوتون في الرؤية .
- وسئل شيخي مرة عن الفرقة الناجية فقال : الطرق متعددة ، وفي كل طريقٍ سالكٌ نجا وسالكٌ هلك .. العبرة في السالك وليس في المسالك . وقال مرة : ليس في الحب حنفي وحنبلي ، كل يصلي وفق مذهبه ، والقلوب تجتمع في النبض .
- وكان ، رحمه الله ، يردد : العشق أفضل الأعمال .. بالشوق تكسب الحسنات ، وبالوصل حسنات ، وفي الفراق أجر شهيد .
- وقرأ : طوبى لليلٍ مدَّ للعاشقين سجادة صلاة ، طوبى للعشق ، وطوبى لمنتظريه ، طوبى لمن سعى في طرقه ولمن تاه .
** شكر خاص للصديق هادي سيمو الذي لولاه لما كان لروحي نصيب الغرف من كلمات الصبابة والاستمتاع بعذوبة ألحانها ، وما كان لمكتبتي المتواضعة أن تحوي على كتاب بهذه القدر من مفاتيح التأمل والتفكير مكتوب في صفحته الأولى إهداء خاص بيد المؤلف إليّ شخصياً . .. شكرا هادي **
اصبحت قائمة الكتب التي اعدها طويلة و قد تم ضم الصبابة المغربية
ردحذفجميل ما اوردت منها
عودة حميدة :)
مع أنني لا أحب قراءة الشعر بمجمله لأن معظمه يدور في حديث الحب والعشق ، الأمر الذي عادة لا أحبذه
ردحذفلكن الصبابة المغربية بعيدة عن التجميل اللغوي وقريبة من القلب بشكل اثتثنائي .
شكرا جفرا
جميل أن ينصهر ويتحد المحب بالمحبوب , ويذوبان في لحن شجي واحد ,
ردحذفأيه ! كم نحتاج اليوم لهذه الدفقات من الحب الصوفي
استمتعت بما قدمته لنا من اختيارات جميلة , وشوقتنا للبحث عن الكتاب
مشكور غابرييل
المجنون
ابن البلد : ما خفي في الكتاب يفوق ما نشر في هذه الصفحة
ردحذفإن كنت مهتماً بهذا النوع من الكتابات أستطيع أن اساعدك - على قد استطاعتي طبعاً - راسلني على الإيميل في اسفل الصفحة