روح زورن ببيتن


تسعى كافة الأديان والحركات الإنسانية والاجتماعية إلى تحسين نوعية الحياة وخلق بيئة أكثر إنسانية ، قد تختلف الطرق التي تعتمدها كل جهة باختلاف البيئة التي تعمل بها وباختلاف العوامل المواكبة لظهورها وتشكلها ، إلا أنها -وبالرغم من اختلافها الذي يصل لمراحل التعاكس في التوجهات - تشترك جميعها بنقطة واحدة ألا وهي "الآخر" . الشعور بالآخر والعمل والتعاضد سويةَ لمساعدته بكافة الطرق الممكنة فكرة تتفق عليها جميع الشرائع والأديان والوثائق والمعاهدات والفلسفات ، مساعدتي للآخر جزء ضروري وأساسي للوصول إلى إنسانيتي .

اشتركت البارحة بحملة تحمل القليل من الطابع الديني والكثير الكثير من المشاعر الإنسانية ، الحملة بعنوان "روح زورن ببيتون" تيمّناً بما رتلت السيدة فيروز يوماً .
انطلقت الحملة - في الحركة التطوعية الكنسية التي انتمي إليها -منذ بداية شهر كانون الأول بإعلان البدء بعملية جمع وفرز وتعليب شملت كلاً من الملابس والمواد الغذائية إضافة إلى جمع المبالغ النقدية لشراء ما يسد حاجتنا في حال لم يستطع المتبرعون تسديد الكمية المطلوبة . عملية الجمع لم تكن عشوائية الهدف بل كنا على علم مسبق بالوجهة التي سنركز جهودنا فيها ألا وهي مدرسة قديمة في منطقة "خان الزيتون " بحلب ، المدرسة بباحتها ( الوحيدة ) وبصفوفها العشرة وحماميها تحولت إلى مسكن يقطنه أكثر من عشرة عائلات من مختلف الأعمار ، يشتركون بضعف إمكانياتهم المادية لدرجة لم يستطيعواعندها تأمين منزل يحميهم ، فاستعانوا بكنسيتهم الأرمنية والتي قامت بدورها بتحويل إحدى المدارس التابعة لها لبيت يأويهم . وليحصل كل واحد منهم على "صف" ليأكل وينام - وليعمل كما في بعض الحالات - فيه .

سبق موعد الحملة زيارة مطولة تعرفنا فيها على أسماء الأشخاص الذين يعيشون اليوم في المدرسة وأعمارهم وقياس الملابس التي تلاءم أجسادهم ، تلك الإجراءات تهدف لتأمين - قدر المستطاع - لكل واحد منهم ما يسّر من الملابس بشكل يتناسب مع عمره وقياسه كي يستفيد مما سنقدمه له لا أن يحصل على هدية لا تعنيه بشيء. أحصينا عدد الأطفال وأضفنا إلى حملتنا مجموعة من الألعاب المغلفة والمصحوبة ببطاقة تحمل أسم كل واحد منهم كي يحضرها بابانويل معه في زيارته الخاطفة لهم ضمن حملتنا الإنسانية .

وصلنا إلى المكان في الموعد المحدد وبدأ أعضاء قسم الإعدادي بالتوزع ضمن المجموعات التي تم قسمهم فيها مسبقاً ، لينتشروا بعدها في المدرسة بحثاً عن العائلة التي قاموا بتغليف ملابسها وإهدائهم إياها بشكل شخصي .
أما أنا وبالرغم من عدم ضرورة وجودي ضمن المجموعة القائمة على الحملة - كون قسم الطلاب الإعداديين خارج صلاحياتي كمسؤول في قسم الثانويين في المنظمة التطوعية .. هكذا تقتضي الهيكلية التنظيمية - ، طلبت من المشرفين على الحملة إشراكي بشكل أو بآخر وعرضت خدماتي في توثيق الحدث وإشراك عدستي معي في حضوري . وكان لرغبتي جواب طيب وقبول حسن . مشاركتي كانت بصيغتها الثانوية أقرب للمراقب من خلف العدسة منها من المشارك بالحملة ، إلا أنها تجربة لا أعتقد أنها ستزول من عاطفتي وذاكرتي يوماً .

وبما أنني غير مشترك بالعملية التنظيمية وغير مقيّد بزيارة عائلة واحدة ( بعكس جميع المتطوعين الذين وزعوا بشكل مسبق ومحدد على العائلات ) استطعت التنقل بحرية مع عدستي بحجة تصوير بابانويل وهو يدور بين الصفوف ( فعلياً ليست صفوف بل بيوت لكل واحد منها خصوصيته ) وبذلك التقيت مع كل المتواجدين في المدرسة ، كباراً وصغاراً .. نساءً ورجالاً وأطفالاً .. حتى الرضّع كان لي لقاء معهم ولقبلتي مكان على خدودهم الوردية .

في حياتنا الطبيعية نلتقي بشكل اعتيادي وبتواتر شبه يومي مع نماذج الفقراء أكان لقاء مع كلمات خطتها الأقلام تنزف ألماً لأخبارهم أم لقاء عبر شاشاتنا التي تنقل صوراً موجعة لأفلام وثائقية تتحدث عنهم .
مع ذلك لا نتأثر بتلك المشاهد بل ننجح دائما بحقن عقلنا بإبر التجاهل والاقتناع بأن الصورة تهول من الأمور وأن الأقلام تضخم الواقع وتمنحه الطابع التراجيدي المغاير للواقع وأن الكل "عايش والحمد لله "

حرية التحرك والتواجد في المكان الذي أريد منحتني فرصة لا تعوض لأشبع فضولي في البحث والتدقيق في تفاصيل حياتهم . التقيت بزوايا ندمت كثيراً لإقدامي على البحث عنها ، زوايا يزول تأثير المخدر عند التقاءك بها لتقف وحيداً أمام الواقع المتشكل أمامك . حائراً مكتوف اليدين ، لتغادرها بعد أن تترك على أرضها بصمة من جوفك ، دمعة أشد حيرة منك ومن عدستك .فيها تخفق جميع محاولاتك اليائسة لرسم صورة مغايرة للتي تظهر واضحة أمامك ، لن تنجح أبداً في التفكير بعيداً عن الواقع وفي محاولة إقناع عقلك الباطن أن الذين يعيشون في هذا المكان بخير !
أن تعيش الحادثة أمر يختلف كلياً عن السماع عنها أو مشاهدتها في الأفلام ، التفاصيل التي تشاهدها تلك التي تترك بصمتها في نفسيتك وفكرك وعقلك .

ايقنت أن البسمة المرسومة على الوجوه لم تكن مصطنعة ، فهؤلاء لا يجيدون التصنع ولم تعلمهم الحياة بعد من مدرستها الوحشية سوى أن يلعبوا دور الضحية . كانوا يضحكون كباراً لرؤية من ارتدى الزي الأحمر ينادي بأسماء أولادهم ، وصغاراً لحصولهم على هدية قد تكون الأولى لهم منذ ولادتهم . كان كل شيء فيهم يضحك ، عيونهم وخدودهم حتى أياديهم ضحكت وصفقت فرحاً وسعادةً !

آنا ماري ، اسم الطفلة التي سبقت الجميع بالتأثير بي ، عدم قدرتها على التحدث باللغة العربية لم تشكل بالنسبة لها حاجزاً للتواصل مع محيطها ، فهي تعبر بوجهها وجسدها عن قلقها لعدم قدوم بابانويل إليها ، وتقفز فرحاً للعبة التي قدمها إليها ، حتى أنها تحسن استقبال زوراها !! عند وصولي إلى المدرسة رأيتها تركض وصوت أمها من خلفها يطلب منها الهدوء والظهور بشكل جيد أمام الضيوف ، ركضت باتجاهي ووقفت أمامي وكأنها تريدني أن أصورها ، رفعت عدستي بسرعة نحوها وضغطت على زر التصوير ، ومضة الفلاش أعلمتها انني قمت بتصويرها وأن غايتها تحققت ، اتجهت مباشرة لتحضنني بيديها الصغيرتين .
انحنيت إليها وضممتها بدوري محاولاً دفع رأسي خلفها كي لا ترى الدمعة العالقة على رمشي السفلي .
انتهى العناق بسرعة ولم تتوقف دمعتي بانتهاءه .

انشغلت بعدها بالتنقل مع بابانويل ولم التقي بشكل مباشر مع "آنا" إلا عند
همومي بالرحيل ، قبل خروجي رأيتها تركض مرة أخرى باتجاهي ، ابتسمت لها وتوقعت أنها تبحث عن صورة إضافية ، لكنها كانت تبحث هذه المرة عن إجابة ، ترجمت لي والدتها ما قالته طفلتها باللغة الأرمنية ، سؤالها كان فيما إذا كنت سأعود إلى زيارتها يوماً .
لم أستطع حينها الإجابة على السؤال بغير الابتسامة والقبلة على خدها . ولا أعتقد أنني حتى هذه اللحظة أملك إجابة استطيع بها إقناع الطفلة ذات السنوات الخمس . أتمنى من كل قلبي ألا أزورها مستقبلاً .. أتمنى أن يتحسن وضع عائلتها المادي لتحصل على سرير خاص بها وعلى مكان تستطيع دخول الحمام فيه متى ما رغبت لا أن تنتظر دورها في ذلك . أتمنى لابتسامتها البقاء مشرقة على وجهها الطفولي وأن تبقى طفلة طول عمرها ولا تكبر إلا بعد انتقالها من هنا لتزول جميع الذكريات والتفاصيل الخاصة بهذا المكان من ذاكرتها .. أتمنى أن أعود في السنة القادمة ليخبرني السكان الجدد أن عائلتها انتقلت إلى منزلها الخاص بعد تحسن وضعها المادي وأن آنا ماري الآن تلعب مع الفراشات لا مع الأحذية .



لقد شهد اليوم واحدة من الحالات النادرة التي أجلس في منزلي بعد لمسي الفقر والحزن الإنساني ومأساة الفقراء والمتشردين والسعادة تغمرني !
عائد لتوي من الظلمة ،وشعور داخلي أنني وبالمشاركة مع من كان في الحملة استطعنا إشعال شمعة في حياة أشخاص قد تزول قريباً صورنا من ذاكرتهم إلا أنهم لن ينسوا أبداً أن أناساً غرباء يتحدثون لغة لا يفهمونها قد أحضروا هدية لكل واحد منهم باسمه. وأن ميلاد المسيح ليس لحظة لنتذكر بها نواقصنا ومأساتنا بل هي مناسبة نحتفل بها مع الملائكة بولادة ملك السلام .

صدقت يا "تشي" فإشعال الشمعة أكثر إفادةً وحناناً وإنسانيةً من لعن الظلمة .

أترككم مع مشاهد مقتطعة من مجموعة الفيديو أنقل فيها بعضاً مما صورته عدستي وعذراً على رداءة الصورة ( الجودة على حساب الحجم ) :



للتحميل انقر هنا

تعليقات

  1. هلق في قول كتييير بحبو للأم تريزا و هو

    " لان العطاء هو الأخذ"

    فعلا بغالب الأحيان التفكير بالعطاء و لو شي كتييير قليل ممكن يعطينا شي أكبر بكتير

    و التفكير بالشيء بشعور إنساني قبل ماديته ممكن يحسن و يطور كتييير أمور نحنن غفلانين عنها

    الله يعطيكم العافية و يعطيكم هداك الفرح يلي قدرتوا تدخلوه على قلوب هالأطفال

    ردحذف
  2. تدوينة مؤثرة، وخاصة صورة البنت الصغيرة وهي عم تتطلع فيك...شي رهيب.

    الى مزيد من الانسانية...

    ردحذف
  3. كثير حلو كثير مؤثر..........
    كل عام وانتو بالف خير يا رب...
    جنين2002

    ردحذف
  4. حلوة صلاتك...فعل.

    ردحذف
  5. كنان وجنين ومجد :


    اللي بيسمع عن الحادثة وبشوف الفيديو والصور ما ممكن يتواصل مع الحالة ويحس بالمشاعر اللي ممكن يحس فيها وقت بشوف الشخص اللي قدامه عم يضحك

    انا ضد معاملة الشخص الضعيف ( جسديا وماديا وفكريا ) معاملة خاصة .. ضد وبشكل كامل
    بس بهيك حالات .. عالم عم تعمل اللي عليها بس القدر عم يوقف بوجها .. لو بتسمع قصصن مستحيل تقدر تمسك دمعتك .. العيلة اللي مات الأب تارك وراه اولاده وزوجته بلا أيا مدخول مادي .. او العائلة اللي احترق بيتها بكل ممتلاكن .. فعلا شي مؤسف

    بشجعك تسأل على ايا منظمة او جماعة بيحملوا رسالة انسانية وتقدم من وقتك لتشارك معن

    صدقني مو خسارة ومو تعب لأن ابتسامة وحدة من انسان عم تساعده بتكفي تعوضك عن كل ساعات النوم وكل لحظات التعب وكل الضغط اللي عايش فيه


    كترت بالحكي بس ما عم اقدر اختصر بالسرد وما عم اقدر لاقي المصطلحات اللي رح توصلي فكرتي .

    ردحذف
  6. ما فيني إلك غير..

    نيالك..وبحسدك..وسعدو يكون معكون..

    وكل ميلاد وكلنا بخير..

    ردحذف
  7. "كان كل شيء فيهم يضحك ، عيونهم وخدودهم حتى أياديهم ضحكت وصفقت فرحاً وسعادةً !".

    تحياتي للانسانية الرائعة.

    ردحذف
  8. علوش
    شكرا الك
    خلينا نعمل صفقة
    انت بتدير بالك على المدونات السورية وبجوانبها التقنية وانا بدير بالي على الانسانية

    يا ترى مين همه أكبر من التاني
    :D

    ردحذف
  9. :(
    عم يصير فينا متل ما حكا محمود درويش .
    يلي عنده سقف ، يتذكر انه في عالم ما عندهم.
    الله يحمل معهم
    ينعاد عليهم ببيت و شجرة و شباك .

    الفيلم ببكي يا غبرييل

    ردحذف
  10. طبعا قريت الموضوع من وقت ما نزلتوا
    بس للاسف للعطل التقني اللي عندي ما قدرت علق
    بس هلا بقدر قول اللي عندو قدرة على العطاء بهادا الشكل بيستحق انو ياخد كتير
    و بتمنالك سنة تتحقق فيها امنياتك كلها
    و انا بنضم الك و بصليلهم انو العيد الجاي ما يكونوا بنفس المطرح و تكون احوالهم احسن

    تحية

    ردحذف
  11. هنـــا كهنــاكـ,,,

    لا يمكن لنا ان نلمح شيئا ما يختلف,,,
    وجوه متعبة وارواح تحاول جاهدة ان تبتسم كي تكون كغيرها ,,,لها من الحقوق ما لهم مع ان المنحة التي قدمتها لهم الحياة لا تذكر,,,لماذا ؟الى الان ما زلت اجهل!!!

    وهمو صغار رح بتشوفهم كتير بسبيطين كتير حلوين كتير بيجننو وكتير بوجعو بس لما يكبروا يا امي شو الوجع رح بيزيد
    رح يحترقوا ورح يكرهوا هالدنيا والحياة وكلشي فيها

    مين فينا بيمتلك انو يغير قدرو اذا كان هالقدر ما بدو يتغير؟؟؟ما بعرف

    غابي,,,دائما كنت واثقة اني اعرفك جيداً

    ردحذف

إرسال تعليق

لم ولن يتم فرض أي رقابة على التعليقات أو المساس بها من تعديل أو حذف.

عبّر عن رأيك بحريّة

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قراءة نقدية في القوقعة : يوميات متلصص

حقارة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى

وسائل الاعلام " المفقودة "