الإسلام السياسي على هامش مآذن سويسرا


موجة من الاهتمام الواضح أبدتها في الفترة الأخيرة جميع وسائل الإعلام العربية من القنوات التلفزيونية والمحطات الإذاعية والصحف الورقية والالكترونية ، حيال الاستفتاء الشعبي الذي قامت به الحكومة السويسرية بطلب من الأحزاب اليمينية ( التي توصف عادة بالمتطرفة ) لمعرفة رأي الشعب ورغبته باستمرار بناء المآذن ( وليس المساجد ) في سويسرا .حتى المدونات السورية والعربية لم تترك الحادثة لتمر مرور الكرام دون تعقيب وشجب واستنكار أو دفاع وتبرير .
فاختلفت أساليب عرض الحادثة واختلفت توجهات الأقلام التي كتبت -بكثرة واضحة -لتحليل خلفية الاستفتاء وعرض تداعيات نتائجه ، فضّل البعض نعت الاتحاد الأوروبي بازدواجية المعايير بين احترام الحريات والتضييق على ممارسة المعتقدات ( مع العلم أن سويسرا ليست حتى عضواً في الاتحاد الأوروبي !!! ) وأعاد البعض الآخر إحياء تفاصيل قرار منع الحجاب في دوائر الحكومة الفرنسية لفضح النوايا الأوروبية الدفينة الراغبة بمحاربة الإسلام كعقيدة وإخراج المسلمين عن دينهم ، بينما اتجه البعض بعيداً عن ذلك وحاول "مدافعاً عن الاستفتاء" تحليل البنية الديموجرافية للدولة السويسرية وأسس القومية السويسرية وحالة الانطواء التي صاحبت قيام الدولة الفيدرالية أي منذ حصولها على كيان خاص بها من صدر الدول الأوروبية الثلاث ( ألمانيا - فرنسا - ايطاليا ) وحتى اللحظة .

لو نظرنا إلى ردات الفعل تلك بعد إسقاط الجوانب الدينية والحفاظ على فعالية الأحداث وإطارها العريض لحصلنا على صورة مشوهة غير مفهومة يستحال في الوقت إيجاد أسباب مقنعة لحدوثها .
فما دخل المواطن السوداني أو السعودي أو اليمني أو السوري في الاستفتاء الذي تقوم به دولة لا تنتمي حتى لقارته كسويسرا !!
بالتأكيد يعتبر تطفلاً وتدخلاً غير مبرر بأمور داخلية لدولة لا يحق لنا إعلاء أصواتنا شجباً لقراراتها الشعبية وآلية عمل حكومتها . ولا أشك أن الناظر إلى الأحداث بعد إسقاط الجانب الديني عنها سيصل إلى نتيجة مخالفة للتي ذكرتها .
أما إذا كان النقد والشجب والاستنكار هدفه تقييم تجربة الشعب السويسري وتوجيه نتائج التقييم لتبيان "كذبة" الحريات الأوربية والشعارات التي يسوقها العلمانيون الشرقيون استناداً على التجارب الأوروبية ، ذلك يطرح سؤالاً مضحكاً بعض الشيء ، هل يحاول كتاب تلك المقالات إيصال القارئ إلى نقطة يشتم بها الحرية الأوروبية ويرقص فرحاً لواقعه العربي الذي لا يمد إلى الحرية بصلة ؟ هل التفاعل المطلوب من تلك المقالات والتقارير يعبر عنه بنبذ الحرية وشكر الله على نعمة التخلف الشرقية ؟ بغض النظر على أن الحرية الدينية للمسلمين في سويسرا لم يلمس شعرة منها ولم يمنع مسلم واحد من التعبير عن إسلامه أو عن أداء فرائضه الدينية أو حتى التعبير عن هوية معتقده !

يبقى السؤال نفسه : ما هو السبب الحقيقي وراء ردات الفعل العنيفة ( والتي وصلت في بعض الحالات لمراحل التعبير عن احتقان وغضب عارم بطرق غير لائقة ) .
السبب يكمن في الفرضية الخاطئة التي استندت عليها في تقييمي أن المواطن غير السويسري لا يحق له التدخل بالشأن السويسري الداخلي ، ففي الواقع ردة الفعل تلك لم تتأثر بهوية الدولة أو طريقة نشأتها أو القارة التي تنتمي إليها أو طريقة تداول السلطة أو طريقة عمل الاستفتاءات الشعبية ، بل سببها والرئيسي يتلخص بعامل وحيد متعلق بالجانب الديني للمواطن السويسري المعني بالاستفتاء ، إي الإسلام . فالإسلام وكما يتم تقديمه اليوم وكما هو متعارف عليه "دين ودولة" والجميع يمر أمام وصف"دين ودولة" دون الوقوف أمام تفاصيله وفهم أبعاده مع أنه "وبحسب تقديري" السبب الأساسي وراء كافة المشاكل المحيطة بالمسلمين في مختلف أنحاء الكرة الأرضية ، وفهم الوصف السابق يعطي أبعاداً أخرى للواقع ويفتح مجالات جديدة لقراءة واستنباط أحداث المستقبل انطلاقا من تحليل التاريخ .

الإسلام كديانة ليس موضع اشكال أو نقاش ولم تحدث مشاكل على هامش تقييم العقيدة والفرائض والأركان والمعتقدات الإسلامية وكافة الأمور المتعلقة بالذات الإلهية وطرق التواصل مع الله سواء كانت خصائص تفردت الديانة الإسلامية بها ام اشتركت مع الديانات السماوية التي سبقت الإسلام والدليل على ذلك أن جميع الأفعال التي تخلق ردات فعل عنيفة لا تكون عادة موجهة إلى العقيدة الإسلامية أو إلى فرائض الإسلام ( إذا استثنينا حالة الرسوم الكارتونية التي تخضع لمقاربات أخرى ، وحتى هي الأخرى لم تتعرض للعقيدة الإسلامية بل تعرضت لرمز إسلامي والفرق كبير وواضح بين الحالتين ) .جميع الإشكاليات والمشاكل تنبع من مفهوم الدولة التي يعمل الإسلام السياسي اليوم على إحيائها ، والتي "افتراضياً" وبحسب أدبيات الإسلام السياسي ينتمي لكيانها ولسلطتها كل مسلم على سطح الكرة الأرضية . اذكر مقولة ( أبعد مسلم في الصين أقرب إليّ من فارس الخوري ) كمثال واضح وصريح على وجود عامل الانتماء للأمة تلك بشكل يفوق الانتماء للوطن الواحد .
ولن ادخل في حديث عقيم حول السلبيات التي لا تعد ولا تحصى والتي تعود كل مضارها إلى كيان الدولة في حال وجود جماعات ( أقليات كانت أم أغلبية في المجتمع ) تحمل انتماءاً يفوق انتمائها الوطني الخاص بالوطن الذي تعيش فيه ! فتلك الانتماءات لا تختلف أبداً عن أي نزعة انفصالية أو محاولة تجزئة لكيان الدولة والوطن ، لا بل تزيد خطراً عن المحاولات الخارجية لأنها أفكار متناقلة ومن المعروف أن الحرب الفكرية أصعب بكثير من الحرب المادية أو الملموسة .ولا أعتقد أن هناك إمبراطورية تاريخية أو دولة أو كيان أو تجمع مر أو سيمر في التاريخ يقبل الاستعاضة عن أفكاره وقيمه وقوميته بمجموعة جديدة وينهي بذلك وجوده وهويته ! .

فلا شأن لي بما حدث ويحدث بسويسرا ولا أعتبر نفسي معنياً بشجب الأحداث أو مباركتها ، أقرأ الحادثة بمجملها على أنها فعل داخلي لدولة ديمقراطية يتمتع شعبها بالوعي الكافي لتقدير مصالحه وتحديد ما هو مفيد لوطنه ونبذ ما هو ضار لمصلحة بلاده !! وقد تصيب إرادة الشعب وقد تخطأ أحياناً، وكونها قرارات شرعية تجعلنا نتأكد من أنها ستتغير طوعاً مع مرور الزمن في حال ورودها بشكل خاطئ .

تعليقات

  1. فعلا كما ذكرت لا شأن لأحد بالموضوع الا السويسرين، ولكن ستم استغلال الحدث من قبل المتطرفين والحكومات القمعية متل هادا وزير الخارجية المصري اللي قال: لا يحق لأوربا بعد الآن أن تعطينا دروس في حقوق الانسان!!

    يعني شفتوا عم عملوا بسويسر!! مو المهم يا مواطنين الخبز والحياة الكريمة المهم أنو فيك تعمر مأذنة بكل حرية!!

    التخلف لا ينتج الا تخلف

    ردحذف
  2. في عالم بلا طبل بتلاقيها عم تزمر

    انا ما بيزعجني الا قراءة التجارب الاوروبية على انها " شايفين حقوق الانسان كيف انها كذبة عم يسوقوها علينا "

    وكأن حقوق الانسان ومفهوم الحرية شي سيئ واللي عم يحاربها عم يأدي واجب وطني وقومي لبلاده !

    ردحذف
  3. مازن كم الماز5‏/12‏/2009، 6:45 ص

    لكن حقوق الإنسان ليست ماركة أوروبية مسجلة , إنها توجد في كل مكان و زمان وجد و يوجد و سيوجد فيه الإنسان , لا يمكن التفريق من حيث الأعراض و النتائج بين الإسلاموفوبيا و بين رهاب الآخر في ثقافتنا السائدة عربيا و إسلاميا , المهم في حقوق الإنسان هو حقوق الإنسان المقهور و المهمش , و من المؤسف أن هناك توازي بين الجماعات المهمشة سياسيا و اجتماعيا في مجتمعاتنا و في العالم في نفس الوقت و بين بعض الجماعات الدينية أو العرقية أو المذهبية أو الطائفية , الشيعة في العراق ( سابقا , على أساس أن وصول آل الحكيم إلى السلطة ينهي مثل هذه الوضعية الاجتماعية المهمشة ) و حتى في لبنان , المسلمون و أصحاب البشرة الآسيوية و السوداء في العالم , هذا يشوش على حقيقة تحرير الإنسان المهمش , الذي يبدو كقومية , كطائفة , كدين , في مواجهة آخر , و ليس كمحاولة لإقامة عالم لا قهر فيه و لا قمع و لا سجون و لا حراس

    ردحذف
  4. مازن كم الماز : أتفق معك فيما قلت كخطوط عريضة دون الغوص في التفاصيل
    فعند دخولك في تفاصيل الاحداث تسقط كافة الاعتبارات العامة والكلام الشمولي ويصبح لكل واقعة منطق خاص لتحليلها ولكل حادثة دوافع ومعايير لتقييمها

    تحياتي لك .

    ردحذف
  5. مرحبا صديقي :
    لكي لا يساق حديثي في غير مقصده سأقول بإني لاديني من هذا الوطن الجميل ززز
    ولكن من المقاربات التي أحاول سوقها لتوضيح نقاوة الفكر العلماني أنه إذا كنا سنرضى بأن ترغم الحركات الدينية " حماس في غزة مثالاً" النساء على إرتداء الحجاب بحجة أنها تمثل السلطة فنحن نوافق ضمنياً على أن تنزع فرنسا الحجاب عن رأس الفرنسيات ..
    في حقيقة الامر لنقف وقفة حق مع أنفسنا كعلمانين في هذا المجتمع المتخلف ..
    تقول بأن القضية قضية رأي عام سويسري وفي صلب الموضوع هو كذلك ..ولكن هل ترى أن فرض الحجاب على الناس في إيران والسعودية وغزة شان داخلي ..أنا لا أرى ذلك ..أرى أن هناك إنساناً مهدد في حقه الإنساني ..
    ومن ثم كان على سويسرا أن تمنع أيضا بناء الكنائس اليهودية فاليهودية أيضا دين ودولة ..
    وشكراً لك ..
    رغم أني أقف مع كثير مما قلت إلا أن علينا أن نقرأ خطابنا بشكل أعمق ليكون أكثر تأثيراً " أقول كعلمانيين "
    تحياتي

    ردحذف
  6. السّلام عليكم...

    للأسف يميّز البعض بين تعابير معيّنة "كالإسلام السياسيّ" و"المتطرّف"...إلخ. وفي الحقيقة هنالك إسلام واحد يستمد مصدره الأساسيّ من "القرآن" وإسلامات مختلفة لا تتّفق بعضها مع بعض في المصادر التي تلي "القرآن" في الأهميّة. وكلّ من يدّعي أو يعتقد بحقيقة تخالف عقائد وتعاليم القرآن فليسَ مسلماً ولو نادى بإسلامه ليلاً نهاراً والأمثلة كثيرة منها "المتصوّفة" و"المعتزلة" اللذان دينا على يد إسلام "القرآن" فحُرما وقُتل أتباعهما.
    وفي هذا الكتاب، أي "القرآن" الإسلام هو "دين ودولة"، ولهذا فعبارة "الإسلام السياسيّ" خاطئة، لأنّ الإسلام في حقيقته دين أمّة واحدة، أي دين سياسة دينيّة ودنيويّة في الوقت نفسه.

    وبالنسبة لقول الرفيق "ظل جيفارا" "كان على سويسرا أن تمنع بناء "الكنس" اليهوديّة، لأنّ اليهوديّة أيضاً دين ودولة" فهو قول بعيد كلّ البعد عن لبّ المسألة. فسويسرا لم تمنع بناء المساجد ولن تفعل، لكنّها منعت بناء "المآذن" والفرق واضح.
    كما أنّ اليهوديّة لا تؤمن إلا بأرض معيّنة وهي فعلاً دين ودولة محدودان "مغلقان" في مكان واحد وزمان واحد: فاليهوديّة لا تبشّر، ولا تقبل بالمرتدين، وأولئك الذين ينتمون إلى اليهوديّة من دين آخر، يُسمّوا "متّقي الله" لا يهوداً. وفي هذا أيضاً فرقٌ كبير بينها وبين الإسلام.

    مع التحيّة.

    ردحذف

إرسال تعليق

لم ولن يتم فرض أي رقابة على التعليقات أو المساس بها من تعديل أو حذف.

عبّر عن رأيك بحريّة

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قراءة نقدية في القوقعة : يوميات متلصص

حقارة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى