تداعيات ريفية - 2


عدت إلى قريتي النائية طامعا بالسلام الذي سبق واعتراني في ربوعها طوال الأسبوع الذي سبق سفرتي الثانية ( تداعيات ريفية )، فوجئت لرؤيتها مكتظة بالسكان بمشهد مناف للشكل التي تركتها عليه !!

قالوا لي أن القرية تمر بعيد ديني خاص بها ، ومن المتعارف عليه أن العيد هذا يشكل موعدا ثابتا يلتقي أهل القرية فيه بعضهم ببعض ، ففي هذا اليوم بالتحديد يتحول فيء أشجار الزيتون إلى ساحات يحن لها أبناء القرية ويعودون راكضين لها من كل حدب وصوب .الأمر الذي رتّب علي الجلوس على درج أحد الأديرة هربا من أهل القرية وأصواتهم المرتفعة ، جلست مع صديقين سبق وكان لي معهما لقاءات مطولة في رحلتي السابقة .

عودة السكان لحضن أمهم القرية ألبس الأخيرة ثوب الفرح والتمدن والضجة ، سعادتهم بلقاء أصدقائهم وأقربائهم توّجوها بإقامة الحفلات والسهرات وإدخالي بدائرة الضجة التي كانت دافعي الأساسي للهروب من المدينة ، تلك الضجة التي هربت منها ظنا مني أنها لا تستطيع العيش بعيدا عن المجتمع المدني ( نسبة إلى المدينة ) أثبتت لي أنها ليست صفة خاصة بالمدينة بل هي صفة متأصلة بالفكر الإنساني مهما كان المكان والزمان الذي ينتمي لهما الإنسان .

تبلورت في رأسي فكرة واحدة أدركت فيها أن الأمر الذي ظننت نفسي متعلقا به لم يكن القرية ولم يكن الطبيعة ولم يكن مفهوم الريف بتجرده وغياب التقنية عنه ، كان أبسط من ذلك بكثير لدرجة يمكن اختصاره فيها بكلمة واحدة .. الصمت ، العامل الوحيد الذي استطاع ترك بصمته الفريدة في عقلي ومشاعري ، يا لسطحية تفكيري عندما ظننت أن لمجموعة الأشجار تلك قدرة فريدة على إحلال السلام في داخلي وإعادة إضرام نيران العشق والهيام في قلبي .

تابعت مع أصدقائي فرحة القرية واحتفالاتها التي امتدت حتى بزوغ الفجر ، أشعة شمس الريف اعادت القرية للشكل الذي تركتها عليه في المرة الأولى .. غارقة في الصمت لدرجة يتحول فيها حفيف ورق الأشجار إلى ضجة مزعجة تحاول التخلص منها بشتى الأساليب .




بقبلة وداع وعناق عاطفي ودعت صغيرتي لأعود إلى مدينتي حاملا بريق عينيها وابتسامتها الملائكية في ذاكرتي ، قبل انطلاقي مررت بصديقين يشيد أبناء جنسي بوفاء أبناء جنسهم فوجدتهما نائمين بعمق من التعب .







خففت من حدة ضرب أقدامي على الأرض كي لا أزعجهما ، فشعور بداخلي يخبرني أنهما مثلي تماما لم يستطيعا النوم في الليلة الماضية لاراتفاع ضجيج بني البشر وصخب سهراتهم .













مواضيع متعلقة : تداعيات ريفية

تعليقات

  1. شو غابي

    استقريت بالأخير و لا بعد في تداعيات ريفية 3

    ----------------
    يا زلمة روح نام بيبيتك بقى :)

    ردحذف
  2. حمد لله على السلامة
    حتى و ان كانت احتفالاتهم تصيغ لنا ضجة معروفة لكنني اشعر انها لها سمة خاصة
    او تدخلك في بهجة خاصة معهم
    المهم انك عدت

    ردحذف
  3. لا ادري لما قفزت الى ذهني اغنية
    ..يا رايح ع ضيعتنا..
    عند قرائتي لسطورك

    وكأنو هالريف بيسكنا قبل ما نسكنو

    ردحذف
  4. قصي
    خوفتني يا زلمة بهلأسم الجديد ( سيدة العطايا ) توقعت يكون ولاد خالتي وصلولي !!

    بخصوص الأجزاء التالية .. لو كل سفرة صارت معي بالصيفية ي كتبت عنها كنت شفتني عم اكتب اليوم تداعيات 8 أو تداعيات 9 على أقل تقدير .. بس بحكم الوقت ما عم افضى اكتب الشغلات اللي عم تصير معي .

    بعد زمان قصي .. اشتقتلك يا دب

    ردحذف
  5. جفرا :
    الله يسلمك
    حفلاتهم لا تختلف عن المدينة من ناحية المبدأ ، نفس الضجة نفس نفس الأجواء الصاخبة ، الأمر الوحيد المختلف هو لون الأغاني وطريقة الرقص :D

    بالتأكيد لها نكهة خاصة ونمط خاص
    لكنها لن تسعد أمثالي من الطامعين بهدوء الريف وسكونه

    سلامي لك

    ردحذف
  6. ياسمين :
    هل تعلمين أنني خلال الأيام التي قضيتها في الريف كنت يوميا أستمع إلى تلك الأغنية يكفي أنها لعازار حبيب وما ادراكِ من هو عازار حبيب بالنسبة لي

    كان لي منذ سنة تقريبا تجربة في تحويل الأغنية وتحويرها إلى مشاهد مصورة
    ترددت في وضعها في صفحتي لأن التسجيل متضمن صور التقطها أصدقائي بكمراتهم الهاوية ولبساطتها أصبحت تعني لهم الكثير ، لذلك توقعت أن باقي البشر لن يستمتعوا بها ولن يفهموا قيمتها .

    الرحمة لعازارنا الحبيب ولحضورك المعبق بياسمين الثلج الأبيض .

    ردحذف
  7. مشكلة الإنسان وإنسانيته يا صديقي العاقل أن تعاليه الأعمى وغروره قد أغلقا عليه حواسه فلم يعد يشعر بنفس الأشجار وروحها فراح بعيداً في القتل والحرق والتدمير, طغت عليه (إنسانيته) هه كم تضحكني هذه االكلمة فأهرب نحو الحيوانية لتستريح روحي
    هل حاولنا أن نسمع مرة ما يقول لنا جذع شجرة اتكينا عليه ورمينا بأحمالنا فوق صدره, هل حاولنا أن نترجح موسيقا الأوراق الخضراء , وهل أصغينا مرة لبوح صخرة تدحرجت من رأس الجبل إلى سفحه
    إييييه

    ردحذف
  8. مجنون : كتب المسرحي الفرنسي الكبير انطوان دي سانت ايكزويري في مسرحيته الأمير الصغير فكرة مشابهة للتوجه الانساني العام طرحها بلسان الرحال الصغير .
    الأمير الصغير ذاك كان يرفض التشبه بالكبار ويرفض أن تتم معاملته كالكبار ويرفض حتى التعامل معهم
    فتفكير الكبار موجه للاهتمام بتفاصيل ثابتة لا يمكن تحويلها كتأمين الطعام والشراب بينما هو كان كل اهتمامه متركز حول كيفية تأمين الحماية لزهرته الصغيرة .

    هل جنونا انا وانت يلقى اهتمام احد ما أم يعتبرونا مساكين تم تعشيقهم بأصوات لا وجود لها في الواقع ؟

    ردحذف

إرسال تعليق

لم ولن يتم فرض أي رقابة على التعليقات أو المساس بها من تعديل أو حذف.

عبّر عن رأيك بحريّة

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قراءة نقدية في القوقعة : يوميات متلصص

حقارة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى

وسائل الاعلام " المفقودة "