الرجل الصامت



تفاعله مع الأحداث لم يكن يوما بالمستوى المطلوب وبالأصح لم يكن له " مستوى " بالأصل .

ليس بالأمر الغريب عليه ، فهو مشهور بعدم مبالاته

اذكر يوم طلبت منه مبلغ إضافي من النقود بداعي السفر مع الفريق الذي العب بصفوفه

اذكر تماما ملامح وجهه عندها حين أخبرته بواقع انتسابي إلى النادي منذ اكتر من خمس سنوات !

تقاعده وجلوسه في المنزل في الفترة الأخيرة أثرا بشكل كبير على سلوكه وتصرفاته

فأصبحت تراه أغلب الأحيان عابس الوجه ، لا يمانع جلوسه في حالة الصمت لساعات متواصلة

غير عابئ بالإحداث التي تجري أمامه .

فذاكرتي لا تسعفني لتذكر حادثة واحدة على الأقل قام بسؤالي بها عن أسماء أصدقائي أو وضعي الدراسي أو حتى موعد عودتي إلى المنزل .

أكون كاذبا إن قلت أنني أحبذ تدخله بتفاصيل حياتي وارغب بإعلامه بكافة نشاطاتي وأفعالي

لكنني بين الفترة والأخرى اشعر بفراغ متولد من عدم اهتمامه المطلق بي

آخر حادثة أدخلتني بحالة من الذهول والحيرة الـ لا منتهيين

فعند إخباره أن ابنته ستأتي بعد أسبوع ، وأنها قد قامت بتثبيت الحجز بالطائرة وتحديد موعد وصولها إلى المطار

كنت أتوقع مجموعة كبيرة من الإجابات القصيرة التي يكررها في حال فتح احدهم حديثا معه مثل " اوكي ، طيب ، منيح تمام ..."

إلا أن إيماءة الرأس كانت كافية هذه المرة بالنسبة له لإيصال فكرته دون تكبد عناء النطق بسلسلة من الأحرف !!

مرت الحادثة بصمت تماما كما مر قبلها الكثير .

اليوم .. عند الظهيرة جلست معه بصمت كما جلسنا دوما حول طاولة الغداء

وكالعادة لم يعطني أي اهتمام يذكر ، فتركيزه مقتصر على الطعام الذي أمامه والشاشة في الجهة المقابلة من مكان جلوسه والتي يظهر شعار قناة الجزيرة في زاويتها العلوية .

ودون سابق إنذار ، خرج من صمته بجملة واحد ، نطقها وعاد بها إلى غدائه كأن شيئا لم يحدث

كانت غريبة جدا خصوصا أنها لم تُقدم ضمن أي إطار أو على هامش أي حديث أو تكملة لأي حوار قائم بيننا

الجملة هي : " بعد 53 ساعة اختك بتكون صارت بلمطار "

جملة كانت كافية لأوقف طعامي واغرق مفكرا ومتأملا بتفاصيل وجه الرجل ذو الشعر الأبيض الجالس أمامي والذي نطقها دون أن يرفع رأسه عن الصحن الغائص به.

أيعقل أن عقله دائم الانشغال بحياتنا وبتفاصيلنا ؟

أيعقل انه يحمل همومنا بقلب صامت ، لا ينطق بل دائما يلعب دور المستمع!؟

أيعقل أن دور الإنسان غير الناطق وغير المعني بالتفاصيل والذي لطالما لعبه في حياتي ، يقف خلفه أب حنون يخفق قلبه ويُشغل عقله ويملئ حياته بهمومنا وأحداث حياتنا !

أفكار وأفكار راودتني لا أستطيع تذكرها بدقة، إلا أنني أستطيع تذكر كيفية إنهائي للغداء كاسرا الصمت القائم بيني وبينه منذ سنوات بسؤال "بابا كيفك ؟ " السؤال الذي لم أفكر يوما القيام بطرحه ، رغم بساطته إلا انه كان كافيا لرفع رأسه والنظر باتجاهي ، ومنحي فرصة النظر لعينيه التين كانت أول مرة ألاحظ لون حدقتهما الأخضر.


الصورة المدرجة من اللوحات التي احتفظ بها واعشقها لشبهها الكبير بينها وبين والدي في جميع التفاصيل الدقيقة ( باستثناء كثافة الشعر في اعلى الرأس)

تعليقات

  1. الشخصية الي عمتحكي عنها ، وتوصيفك للحالة ..

    مارر فيها من قبلك غابي

    بس الشغلة العظيمة أنو الوالد اللي ما بيحكي ، وما بيسأل عن تفاصيل.

    هوّ أكتر شخص متابع للأحداث ، وبيعرف الي عميصير معك أكتر ما تعرف انت عن حالك.

    صمته بيجي مو من منطلق التجاهل أو اللامبالاة ، بالعكس هالصمت هاد بيجي دائما كـ محاولة للفهم والتعمّق أكتر بالابن ... خصوصا بهالسن هي

    تحياتي :D

    ردحذف
  2. بس اوقات كنت حس لحالي عايش بشكل منفصل تماما عن عائلتي ، حتى اني وصلت لمرحلة حس اني اذا مريت بمشكلة بجوز يقولولي مشكلتك مشي حالك نحن ما النا علاقة

    بس عنجد بعد هلموقف في كتير اشياء تغيرت وفي كتير اشياء مريت فيها اليوم حتى حصلت على اجابة مقنعة الها ..

    لأول مرة بحس انه شعور رائع انك تكون عايش مع اهلك ..

    اهلين حميدوش ..

    ردحذف
  3. احيانا بكونوا الاباء شربوا من الزمن اللي بكفيهم ومع الوقت رح تفهم حكيي و مع السنين رح نوجدلهم كل الاعذار
    لكن صدقني انا متاكدة من اللي بحكيلك اياه مهما اختلفت معو او حسيت بوحدتك بوجودو مع انو المشاعر هاي صعبة اعرف انو انت في اعلى القائمة
    هدا الشي مرقت في قبل هيك فكانت ردة فعلي قوية باتجاه بابا بس مع الزمن عرفت انو الحياة تاثيرها فينا هلا و فيهم قبل اكبر بكتير مما نحنا بنتصور

    ردحذف
  4. حبيت هالتدوينة كتير
    تشبه والدي كثيرا

    ألوم دائما انانيتي في أني لا اجالسه بما يكفي. لا أساله كيفك بما يكفي
    هناك دائما هذا الصوت الأناني في اعماق اعماقي يسأله بصمت: لماذا وصلت لهذا الحالة؟
    لكني بكل غبائي لا ارى انه لو مرّ ربع ما مر على راس أبي في حياته لكنت ربما أسوح في الشوارع.
    ألوم ابي وامي على شيء فقط. انهم لم يعلموني ان اقول لهم : احبكم كل صباح. أو ان اقبل أيديهم كل صباح.. رغم أني منذ 4 سنوات قررت اني يجب أن اقبل أيديهم أن رضوا او لم يرضوا..ولكني لا اعرف كيف أجلس معهم لأقول لهم ما بداخلي من كره لما وصلوا اليه.

    عكلن .. فقط أقول لك، ما اقول لنفسي دائما.. لو جالست والدي بنفس الكمية التي أجالس شاشة النت ، ربما أدخلت البهجة لقلبه.

    مودتي

    ردحذف
  5. أزال المؤلف هذا التعليق.

    ردحذف
  6. جفرا : تختلف الأسباب والأفكار وتبقى حقيقة محبةالأهل واحدة مهما اختلفت اللغات ومهما تغيرت المواقع والأحداث ، بس لحتى يصل الانسان لطريقة فهم والديه ما بيبقى حدا لحدا ... وكتار من العالم اللي بموتوا قبل ما يفهموا خاصية العلاقة هي ومفاهيمها .

    اهلا بك عزيزتي جفرا .

    امنية : لا اريد التفكير بمن أخطأ بحق من ، ولا اريد التفكير لماذا انا بعيد عن والدي ، وشخصيا لا اعتقد انني امتلك القدرة على تغيير واقع علاقتنا وتغيير صيغة حياتنا ، فلست مستعدا احتمال تدخله بحياتي ، ولا اعتقد انه يرغب بالتدخل بها بشكل علني .

    فسيبقى صامتا كما عهدته ، لكن الذي المتغير الآن هو نظرتي إليه ، فالرجل اللامبالي سابقا اصبح رمز الحكمة والعاطفة ، ولتحيا المشاعر الرائعة


    اهلا بك .

    ردحذف
  7. ذكرتني بـ أبي كتير...
    بعد غياب أكتر من سنة عن بعض كنت حابة اقعد معو واحكي وقللو كل شي عني وشو كان عم بيصير معي وعن مشاكلي بماانو لما عم نكون ببعض مابقدر قللو واقعة بالمشكلة الفلانية مشان ماينشغل بالو...بس صمتو اللي انت وصفتو بطريقة رائعة ماقدرت احكي ولاكلمة...وضل اقعد اتامل وجهو اغلب الاوقات...لقبل ماسافر بنهارين برغم انو البيت كان ملان بالعالم شي عم بيودعني وشي عم بيعزي اجا واخدني وطالعني وحكالي شو عم بيصير معي بالتفصيل وازا بدي اي مساعدة حتى لو كنت بعيدة ماخاف وقللو...
    من يومها نظرة القداسة لابي زاددت بدرجة فظيعة بالنسبة الي....


    بدي قلك المقالة رائعة ابو الطووون

    ردحذف
  8. لا تواخذيني آنسة عيون على عدم ردي بس عنجد ما انبتهت على الرد .. ميرسي لتفاعلك مع التدوينة


    "سمايلي ابو وردة "

    ردحذف

إرسال تعليق

لم ولن يتم فرض أي رقابة على التعليقات أو المساس بها من تعديل أو حذف.

عبّر عن رأيك بحريّة

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قراءة نقدية في القوقعة : يوميات متلصص

حقارة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى

وسائل الاعلام " المفقودة "