وفاة ثالثة





عدت إلى المنزل بعد اكثر من خمس ساعات من العمل المتواصل ، فغدا هو الموعد المحدد لاطلاق حملة مساندة البيئة التي تعدها الحركة التطوعية التي اعمل تحت غطائها
ولا يزال هنالك الكثير من المهام التي يجب انجازها مثل وضع اللمسات الاخيرة على الملصقات الاعلانية ووضع مخطط تقديري للأماكن التي يجب بها نشر الملصقات

مع دخولي إلى المنزل شعرت بجو غريب
ليس الغريب ان ادخل دون القاء التحية على احد ، فلطالما تعودت ان اخرج من المنزل واعود إليه دون ان اشاهد احد من اسرتي او اودع احد منهم
لكن الغريب هذه المرة هو اضاءة القنديل الموضوع امام الصليب في غرفة البيت الرئيسية
فالقنديل هذا لا تضئيه امي سوى في الايام التي يكون احدنا واقع في مازق او في فترة الامتحان
كاشارة شخصية تقوم بها والدتي للدلالة على تسليم القضية إلى الرب وطلب مساعدته لتسديد الخطى .
ولم ولن اؤمن بمثل هذه الحركات في يوم من الايام ولست بصدد الحديث عن التقاليد والافكار الدينية الموروثة شعبياً
وفي الحقيقة رؤية نار القنديل لم تستجر عقلي للتفكير في رمزيته ، بل دفعتني للتفكير بسبب اضائته
فلسنا في فترة امتحانات ، ولا يمر احد من افراد اسرتنا بحالة ضيق او شدة ... فلماذا يضاء القنديل ؟

مع أول تقاطع نظرات بيني وبين عيني امي المغرقتين بالدموع ، عرفت معظم نقاط الاجابة ، فحادثة وفاة قد وقعت في عائلتي اليوم ... كيف علمت ذلك ... لا ادري .. قد يكون السبب انني لم اشاهد امي باكية بهذا الشكل من قبل ...
سألتها ببرود " مين مات ؟ "
اجابتني بصوت خافت " اشبينك "

خرجت من المكان واتهجت إلى غرفة لأجلس وحيدا
لقب الاشبين يرادف لقب " العراب " بحسب الثقافة التي ساهم آل بتشينو بنشرها
من المفروض ان اللقب يحمل دلالة على حميمية العلاقة بين الانسان وعرابه
الا انني لم اكن على علاقة مميزة مع عرابي الذي حملني في طفولتي ...
الا انه يحمل في قلبي مكانة لم اكن قد فكرت فيها من قبل .
اذكر جزءا كبيرا من لحظات طفولتي وانا جالس في منزله الصيفي
يلاعبني بحزازير الارقام ، محاولا تصعيب المسألة الرياضية على طفل العشر سنوات
ويدوي صوت ضحكته اعجابا مع عودتي بالاجابة الصحيحة بعد عدة ساعات من التفكير والتركيز المبذول من عقلي الصغير آنذاك

قد يكون خبر موت والد احد زملائي في المنظمة التطوعية قد صدمني وأدخلني في دوامة من الكآبة لما في الموت من افكار سوداوية تملك قدرة عجائبية لزرع التشاؤوم اينما حلت
قد يكون خبر موت والدة صديقي المقرب استطاع سرقة الابتسامة مني في الوقت الرهان وحل مكانها مفهوم سلبي للحياة، خصوصا بعد ان علمت ان المرحومة كانت تصارع السرطان طوال السنوات الثلاثة الاخيرة وقد آثرت على عدم اخبار اولادها بمرضها كي لا تشعرهم بالحزن .
اما خبر وفاة " عمي ابو نخلة " كما تعودت ان اناديه منذ طفولتي ، قد قتل من ذكرياتي شخصية لم ادرك يوما مدى محبتي لها ومدى اهتمامي بها ...

فهل اكمل ملك الموت معزوفته ... ام هناك مدعوّن آخرون من حياتي يريد استدعائهم ...


تعليقات

  1. اعزيك صديقي لكنني اعرف ان الموت له ذائقة اكبر من الكلمات

    و لكن ذكرتني نهاية مقالك بقول جدتي
    ان الموت لا يقف الا عند ثلاثة فان زاد فرح تكون مجزرة او وباء

    اعرف الشعور المصاحب لشخص يحيط به رائحة الموت و الحزن
    لا تبيده غير الدموع
    او الصلاة ............

    ردحذف
  2. لم اعد اذكر متى كنت فرحا ... او متى آخر مرة استطعت النوم فيها قبل مضي ثلاث ساعات على استلقائي في الفراش ... لم اكن اريد نشر اية من احزاني على صفحات الانترنت ، لم اكن اعتقد انني سأبكي حزنا على انسان رحل كما بكيت اليوم

    آسف انني اثقل من حولي بالهموم وابعث الحزن اينما حللت ، لكن صفحتي انعكاس لافكاري ولحالتي النفسية ... وروحي ليست اقل سوادا من صفحتي ..

    جفرا بحسب جدتك ... حياتي جحيم. .

    ردحذف
  3. الله يرحم المتوفّين

    الحقيقة عندي كمان فترة مشابهة, مؤخراً رحت عالكنيسة قد كل باقي حياتي و كلهم مآتم لأقرباء, ذاتاً في مجموعة من أقرباء أمي هدول منسمّيهون "أقرباء المآتم" لأنو بنشوفهم من العزا للعزا...

    و لكن هذه سنّة الحياة, الحياة بدون موت لا معنى لها

    تحيّة

    ردحذف
  4. "
    و لكن هذه سنّة الحياة, الحياة بدون موت لا معنى لها

    "

    معك حق بكل حرف قلته بهلجملة ... بس للأسف دروس الحياة وعبرها ما بيقدر حدا ياخدها الا بالطريقة الصعبة " خسارة عمل ، فشل في الدراسة ..." واكثرها بشاعة هوي الموت ...

    تحية الك ياسين .

    ردحذف

إرسال تعليق

لم ولن يتم فرض أي رقابة على التعليقات أو المساس بها من تعديل أو حذف.

عبّر عن رأيك بحريّة

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قراءة نقدية في القوقعة : يوميات متلصص

حقارة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى

وسائل الاعلام " المفقودة "